رئيس التحرير
عصام كامل

أحبائي يذهبون إلى الـ«هناك»

لسنوات طويلة كانت هناك اتفاقية يمكن أن أمنحها عنوان «حلمك مقابل غيابي».. اتفاقية غير مرئية بيني وبين الموت.. بمقتضاها لا يضع الموت أي من أحبائي على قوائم «المطلوبين على وجه السرعة»، وامتدت سنوات اتفاقيتنا غير المقصودة هذه، إلى الدرجة التي تصورت أنني أصبحت وأحبتي في خانة «يستحق النسيان»، ولأن الموت حق، والحق مهما مرت السنوات لا بد أن يعود إلى صاحبه، فجأة وجدتني أدخل دائرة الفقد دون أي مقدمات، سقطت -مع سبق الإصرار والترصد- في فخ الحزن المُزمن، بل يمكن القول إني أصبحت زبونًا جيدًا من غير المعقول التفريط فيه.

سنواتي الطويلة التي ظللت طوال أيامها وأسابيعها وأشهرها متجنبًا الموت رافعًا راية الحلم، داعيًا الجميع إلى الوقوف جواري، لم تشفع لي عند الموت.. جاء الأخير في الموعد الذي سبق وأن قطعه على نفسه في غفلة مني.. تلقيت الضربة الأولى.. لا أزال أذكر وقعها حتى الآن، كانت قريبة الشبه بـ«حجر يسقط فوق رأسك وأنت غارق في الظُلمة».. يومها غرقت في ظلمة حالكة.. ظلمة من النوعية التي تكاد تلمسها، تشعر بها وهي تطحن قلبك وتلمح على وجهها ابتسامة شماتة غير مبررة.

يومها.. انتفضت.. بكيت.. لعنت.. وأخيرًا قررت الهرب.. أذكر أني ركضت في شارع قصر العيني، وكانت الساعة تجاوزت الثانية والنصف صباحًا بقليل.. ركضت طويلًا.. أو هكذا ظننتني.. ثم عدت إلى منزلي ونمت.. وفي الصباح قررت القفز فوق عقبة الحزن.. كنت ولدًا طيبًا ظننت أن الموت سيبادلني عدم الاهتمام، فالمعاملة بالمثل، لكنني كنت طيبًا جدًّا.. أدركت بعد أيام أنني سقطت في الفخ، وأن أيام الحلم ولت بلا رجعة، حاولت كثيرًا العودة إلى الوراء، فالأمام لم يكن يناسبني، وفي كل مرة كان رأسي يتلقى الضربة مضاعفة لأسقط من جديد، حتى جاء عليّ اليوم الذي أدمنت فيه السقوط، بل أصبحت لا أقاوم حتى..!

مررت بأيام كنت أظنني بعد تجاوزها وقد خرجت من النفق المظلم.. كنت أنفض عن رأسي أفكاره الحزينة.. أمسح عن سطح الذاكرة ذرات تراب الاستسلام الذي استغل سنوات سقوطي وتراكم عليها.. استولى عليها.. كنت ـوللحظات-  أعود لامعًا أنيقًا صالحًا للاستخدام وللحلم أيضًا.. لكنني أدركت بعدها أن هذه اللحظات لم تكن أكثر من لحظات الوعي الكامل التي تسبق أيام السقوط في غيبوبة.. وسقطت في الغيبوبة. 

راح مكان أحسن

سابقًا.. كنت أظن أن الحزن يترجم بالبكاء والدموع والامتناع عن الطعام و«طبطبة» خفيفة على الكتف، وما هي إلا أيام وتعود الحياة إلى مجاريها.. قابلت كثيرين يتعاملون مع ما كنت أظنه حزنهم الخاص بهذه الطريقة.. لكن الأيام أثبتت -وللمرة الثالثة- أني ولد طيب، أدركت أن هذه النوعية من البشر هم «كدابين الزفة» أي زفة، حتى وإن كان الحزن هو العريس.. فهمت معنى نظرات الضياع.. «التوهة» التي كنت ألمحها على وجوه البعض، الذين كنت أتهمهم بـ«قسوة القلب» لا لشيء إلا أنهم لم يسقطوا مغمى عليهم، لم تتساقط دموعهم، لم يحتاجوا إلى من يسند خطواتهم المتعثرة غير المحسوبة.. كنت ساذجًا عندما ربطت الحزن بالبكاء والدموع والسقوط مغشيًا عليك لثوانٍ معروف عددها مسبقًا. 

ضربة تلو الأخرى بدأ جسدي النحيل يلقاها من جانب الموت.. وبعد كل واحدة كنت أقف مستعدا للضربة الجديدة.. لم أكن أمتلك القدرة الكافية لتحديد من أين ستأتي الضربة.. لهذا أصبحت أيامي مجرد سلسلة من التأهب للقاء لا أعرف موعده.. أقنعت نفسي أني من الممكن أن أخرج صباحًا ولا أعود إلى أسرتي مرة ثانية.. فاعتدت أن أطبع مع شروق شمس كل صباح قُبلة في وسط جبين ابنتي الغالية.. أدمنت أن أوصي ابني الصغير على والدته وشقيقته.. وتركت زوجتي تتولى إنهاء بعض الأمور، وهي التي تظنني أتكاسل عن فعلها، أدركت أنني سأذهب إلى الـ«هناك» في أي لحظة.. فحاولت ترتيب جزء من الفوضى التي أظن أن غيابي سيفرضها على أحبتي فترة من الزمن. 

«راح مكان أحسن» جملة أتقنت تمريرها في كل مناسبة تأتي فيها سيرة الموت.. فمن أنا لأحكم بأن هذا سيذهب إلى الجنة وذاك ينتظره عذاب أليم.. الجميع عندي يذهبون إلى الـ«هناك»، والذي أظنه سيكون أفضل كثيرًا من الـ«هنا» الذي يمضغ أرواحنا بلذة. 

--

أخيرًا

خلافي مع الموت -إن حق لي أن أختلف معه- أنه يأتي دون موعد مسبق، إشارة واحدة تلمحها الروح فتستعد لاستقبال الضيف الثقيل غير المرحب به، بلقاء طويل.. عناق ممتد، أو حتى مكالمة تخرج منها بما يمنحك القدرة على احتمال الغياب.

خلافي مع الموت -إن حق لي أن أختلف معه- أنه خائن، كرفاق اللحظات السعيدة فقط، الذين لطالما فروا وقت الشدة، خونة في مشاعرهم وأحاديثهم وسلاماتهم السمجة.. وفي اعتزالهم رحمة.

خلافي مع الموت -إن حق لي أن أختلف معه- أنه قاتل يجري في عروقه دم بارد، يبتسم لك بينما يغوص في جسدك مقتلعًا قلبك من مكانه، ويطالبك أن تظل على قيد الحياة، تنام وتصحو وتعمل وتفرح وتسقط وكأن شيء لم يكن..!

خلافي مع الموت -إن حق لي أن أختلف معه- أنه يسرق من عمرنا سنوات كديكتاتور يعلق رقاب شعبه على المشانق كل صباح.. ويقول: «إنها إرادة الله»..!

خلافي مع الموت -إن حق لي أن أختلف معه- أنه يدرك حجم خوفنا منه، ورغم هذا يحجز لنفسه مقعدًا على موائد طعامنا.. جلساتنا العائلية.. اللحظات السعيدة التي تسرقها من وراء ظهر الدنيا.. ويقول «فيها يا أخفيها».. وفي كل مرة يخفيها.

الجريدة الرسمية