رئيس التحرير
عصام كامل

أمراء الحرب والمخدرات وأشياء أخرى.. أفغانستان توفر 9% من الأفيون في العالم.. و2% من المخدرات

أفغانستان
أفغانستان

فرضت أمريكا معتقداتها السياسية على الأفغان منذ احتلالها البلاد مطلع الألفية الثانية، دون النظر لأهلية البلاد للديمقراطية الليبرالية بكل أركانها وخاصة في الشق الاقتصادي، وكان من نتائج ذلك أن أفغانستان أصبحت أسوأ سوق اقتصادي حر في العالم، ومع ذلك ألزمت كل الحكومات التي جاءت برعايتها على الالتزام به رغم نتائجه الكارثية، بعد أن أجرت تحصينات قانونية للنظام، ووضعته ضمن نصوص الدستور الأفغاني في مادته العاشرة.


والسوق الحر من أهم أركان الديمقراطية الليبرالية، وهي عملية اقتصادية يتم فيها تحديد الأسعار على أساس العرض والطلب، ولا تتدخل الحكومة في الأسواق إلا قليلًا، وغالبًا لا تتدخل على الإطلاق، ومع أن الولايات المتحدة فرضت هذا النظام طيلة 20 عامًا، إلا أنه حتى الآن لا يوجد له تعريف واضح في أذهان الأفغان. 


وغياب مثل هذا التعريف هو الذي قد قوّض الدولة وأجهزتها، لدرجة أن الحكومات المتتالية لم تكن لها أدنى سيطرة على مواردها، بعد أن تركت التعدين والبترول وغيره من السلع السيادية والرئيسية للدولة في أيدي السوق الحر والقطاع الخاص. 


لم يفشل السوق الحر في حل مشكلات الأفغان فقط، بل أدى أيضًا إلى تفاقمها بشكل غير مسبوق، بعد فشل الحكومات الأفغانية في كبح جماح أنشطة المافيا الاقتصادية كما وصفها الرئيس الأسبق حامد كرزاي، التي دمرت أي محاولة للشباب للدوران في فلك النظام الاقتصادي للبلاد، بإنشاء مشروعات صغيرة ومتوسطة بسبب تركز الثروة ورأس المال في أيدي دوائر صغيرة منعت غيرها من التواجد مطلقا أو الانضواء تحت رايتها. 

احتكار الثروة

بحسب صمويل هنتنجتون، الباحث الأمريكي الشهير في العلوم السياسية السياسية، يؤدي التوزيع غير المتكافئ للثروة ورأس المال واحتكار الثروة إلى خراب الدولة على المدى البعيد والقريب، وتعتبر أفغانستان أكبر مثال على ذلك، إذ أدى احتكار الثروة في السوق الحرة إلى تضحية السوق بأكثر من 5% من سكان أفغانستان في كل دورة اقتصادية، وارتفع معدل البطالة يوما بعد الآخر، ما انعكس على انتشار الفساد في كل ربوع البلاد.


كانت واحدة من أكبر وأخطر عواقب البطالة في أفغانستان، تسرب أبناء الأسر الفقيرة إلى صفوف حركة طالبان، التي احتضنتهم بشدة وضمتهم إلى مستحقي الزكاة، لعبت الحركة بحرفية شديدة على تناقضات السياسة الأمريكية الكارثية التي رسخت ثقافة المجتمع المفتوح والسوق الحر في المدن التي تركزت فيها الجاليات الأجنبية والطبقة الأرستقراطية الأفغانية مثل كابول وهرات وبلخ. 


لكنها تركت 80% من مقاطعات البلاد محرومة من الحداثة، وامتلاك اقتصاد قابل للحياة ومستدام، ما دفع الكثير من أبناء هذه المقاطعات ولا سيما الشباب للانضمام إلى حركة طالبان، وخاصة الذين دمرتهم متاهات السوق الحر، الذي يتطلب لفعاليته أفرادا على درجة عالية من التأهيل والتعليم الثقافة، بينما أغلب الأفغان لا يستطيعون القراءة والكتابة، وهو ما تؤكده إحصائيات عدة، فنسبة من لا يعرفون «فك الخط» في البلاد تتجاوز الثلثين. 


واحدة أيضًا من كوارث السوق الحر الذي فرضته أمريكا على أفغانستان في ظروف غير مواتية بالمرة، أنه بدلًا من تسريب الثروة إلى أسفل كما هو الحال في البلدان المتقدمة التي تطبق هذه الانظمة، تحول «السيستم» لخدمة طالبان بشكل مثير للدهشة.


أجرت الحركة مع طبقة أمراء الحرب التي استحوذت على المناجم والبترول وشركات التعدين الكبرى في البلاد تحالفات سرية أنتجت سوقًا سوداء استطاعت طالبان من خلالها تسريب كل ما يقع تحت أيديها من ثروات بعيدًا عن سيطرة الحكومة الرسمية بأسعار تنافسية منخفضة للغاية عن السوق العالمي الأمر الذي وفر للطرفين أرباح خيالية على جثة البلاد. 

الأفيون

وجدت طالبان الأريحية الكافية في زراعة المخدرات والاتجار بها بحسب بيانات مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة الذي أكد أن أفغانستان توفر 9% من الأفيون في العالم، و2% من المخدرات بكل أنواعها، ومعظم زراعة الخشخاش كانت تتم في المناطق التي تسيطر عليها طالبان، على أن تتولى تسويقها في العالم أمراء الحرب والأثرياء الذي سيطروا عمليا على كل منافذ السلطة في البلاد. 


ما بعد طالبان.. ماذا يعني الانتصار للتيارات الدينية؟

حتى الآن لا يستطيع أحد الرد على هذا السؤال، لكن قبل الخوض في موقف الحركة الحالي يجب استعراض تاريخها أولا لمعرفة منطلقاتها الفكرية وما الذي تريده.


حركة طالبان قومية إسلامية سنية متشددة مؤيدة لعرقية الباشتون، تأسست في أوائل التسعينيات، وبحلول عام 1994 تحركت في طريقها عبر الجنوب، واستولت على عدة مقاطعات من مختلف الفصائل المسلحة التي كانت تخوض حربًا أهلية بعد سقوط الحكومة الأفغانية المدعومة من الاتحاد السوفيتي في عام 1992.


في عام 1996 استولت طالبان على كابول، وقتلت رئيس الدولة الرئيس نجيب الله، وأسست إمارة أفغانستان الإسلامية، ومن أول لحظة لها في الحكم، بدا أنها تميل إلى تفسير الدين بشكل صارم ومتشدد، لهذا وضعت سياسات لا ترحم وخاصة للنساء والمعارضين السياسيين من أي نوع، والأقليات الدينية.


في السنوات التي سبقت هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، وفرت طالبان ملاذًا آمنًا لتنظيم القاعدة ما مكنها من تجنيد وتدريب ونشر الإرهابيين بحرية تامة في دول أخرى، واستمرت هكذا حتى اقتلعتها الولايات المتحدة من السلطة عام 2001 من خلال الحملة التي قادتها الولايات المتحدة ضد القاعدة.


مرّت طالبان بعدد من الاحداث المفصلية في تاريخها طوال هذه الفترة، أولها وفاة مؤسس القاعدة أسامة بن لادن في مايو 2011، وتُوفى أيضًا زعيمها التاريخي الملا محمد عمر في عام 2013، وكان عمر من أهم داعمي بن لادن وكان أيضًا صاحب قرار عدم تسليمه للولايات المتحدة، ما عرض الحركة لدفع ثمن باهظ، وبوفاته تقلصت الضغوط عليها واختارت الحركة بعد عمر الرجل الثاني الملا محمد منصور في 2015 أميرًا لها. 


خلال هذه السنوات تتبعت الحركة نمطًا ثابتًا، واتخذت من هجمات الكر والفر والهجمات الانتحارية المعقدة، أسلوبًا رئيسيًا لها، وبحسب تقارير دولية كانت طالبان تستخدم الهجمات الانتحارية بنسبة 78% من إجمالي خطتها في كل أنحاء البلاد ما تسبب في خسائر فادحة للجيش الأفغاني الذي لم يكن قادرًا على الرد بنفس الطريقة، ونجحت ثقافة المفخخات بالنهاية في تمكين طالبان من الحكم مرة أخرى.. لكن ماذا بعد الحكم؟ 


الأخوة الإسلامية والتعاطف الأيديولوجي

قبل عقدين من الزمان، كان رفض طالبان تسليم أسامة بن لادن ورفاقه من قادة القاعدة بمثابة مبرر للرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش لإطلاق عملية عاصفة أفغانستان بقيادة الولايات المتحدة.


تم طرد طالبان بسرعة من السلطة، لكن الأمر استغرق 10 سنوات أخرى من القوات الخاصة الأمريكية لتعقب وقتل العقل المدبر لهجمات 11 سبتمبر على الولايات المتحدة أسامة بن لادن بفضل حماية طالبان.


سنوات الصراع والعمليات الأمريكية لمكافحة الإرهاب قبل وبعد وفاة بن لادن، لم تفلح في تفكيك شبكته الإرهابية، صحيح أنها أضعفتها وحجمت التهديد الذي تشكله القاعدة والجماعات المتطرفة الأخرى في أفغانستان لكن التنظيم لم يهزم أبدا. 


هذه البنية المعقدة تجعل خبراء الأمن في العالم لا ينخدعون بالتصريحات البراقة لطالبان بعد عودتها الثانية، وخاصة أن الطريق إلى الحكم كان مليئًا بالمفخخات والعمليات الانتحارية، فلا ينتظر من هذه العقليات التحول فجأة من أقصى التطرف إلى الحكم المدني الرشيد. 


حتى الآن لم تقطع طالبان علاقاتها بالقاعدة، ولازالت تعتمد كليا على تكتيكاتها الجهاديين من الظهور أمام الكاميرات بالأسلحة، والعبث بالعلم الوطني للدولة وإزالته كليا وتصدير أعلام أقرب إلى داعش والقاعدة، وهو أمر طبيعي من حركة كانت تخطط حتى أبريل الماضي فقط بحسب تقارير صادرة عن المخابرات الأمريكية لشن هجمات إرهابية ضد أشخاص ومصالح غربية في البلاد. 


بحسب مراقبين، هذه الثقافة ليس سهلا أن تبقى خارج دوائر اهتمام الجهاديين في العالم، ومن الطبيعي أن يطرح الجميع تساؤلات حول الكيفية والحجج التي ستطرحها طالبان على مَن يمثلون ثقافتها وموقفها من الحياة لطردهم خارج البلاد بمجرد وصولها للحكم، بعد أن ساعدوها على اقتناصه من جديد، وخاصة تنظيم القاعدة، الذي أنشأ بنية تحتية كاملة مزودة بمرافق للتدريب ومساحات شاسعة من الأراضي غير خاضعة إلا لتعليماته. 


بخلاف ذلك دشنت طالبان على مدار السنوات الطويلة الماضية لوبيات انتحارية تمثل فناء خلفيا لها حال قررت الولايات المتحدة أو أي قوة أخرى الغدر والهجوم عليها، وبالتالي ليس سهلًا تأمين تأكيدات الحركة الجهادية بأنها ستمنع هؤلاء من العمل في أراضيها، ولا يوجد أدنى إثبات مادي أنها ستمنع أي مطارد إسلامي من اللجوء إليها. 


يثبت فرضية ذلك أن نص اتفاق الدوحة 2020 بين أمريكا وقيادة طالبان، كان ينص على أنها لن تسمح لأي من أعضائها، أو الجماعات الآخرى بما في ذلك القاعدة باستخدام أراضي أفغانستان لتهديد أمن الولايات المتحدة وتعهدت بإرسال رسالة واضحة مفادها أن كل الذين يشكلون تهديدا لأمن أمريكا وحلفائها لا مكان لهم في أفغانستان. 


لكن بعد أربعة أشهر فقط، كشفت تقارير مخابراتية أمريكية أكدتها تقارير مماثلة للأمم المتحدة، أن طالبان كانت تتشاور بانتظام مع القاعدة خلال مفاوضاتها مع الولايات المتحدة وقدمت لها ضمانات بأنها ستحترم علاقاتها التاريخية، كما قدمت تطمينات للقيادة العليا للقاعدة على رأسهم أيمن الظواهري بالإبقاء عليهم في أفغانستان للأبد. 

تحالفات طالبان

ليس هذا فقط، بل رصدت أجهزة المخابرات الأمريكية تحالفات تجريها طالبان خلال الأشهر الأخيرة مع جماعات جهادية خارجية مثل شبكة حقاني الباكستانية التي تضم نحو 10 آلاف مقاتل، لدعم طالبان حال الدخول في نزاع مسلح على السلطة مع أمريكا مرة أخرى. 


هذه التقارير تؤكد أن طالبان كانت ولا زالت جماعة أفغانية متشددة، يجمعها بسائر التيارات الدينية تاريخ ومشروع مشترك بعض النظر عن الاختلاف في التفاصيل وكيفية الوصول إلى الهدف، لكن في النهاية يجمعهم النضال الديني، والتعاطف الأيديولوجي، والمصالح المشتركة. 


مستقبل أفغانستان.. قاعدة لكل الإسلاميين 

منذ أسبوعين وطالبان تتبع خطابًا سياسيًا ناعمًا منذ عودتها للسلطة، وتحاول إثبات تطورها، وأنها لم تعد تنظيمًا سريًا شديد الخطورة له تاريخ حافل بالعنف والتطرف، وتستعين ببعض المحللين، أو البعض من ذوي الخلفيات الإسلامية يتبرع بمحاولة إيجاد تفسيرات تخفف حدة النقد ضدها في وسائل الإعلام الإقليمية والدولية.


بعض المزاعم التي يتبعها المحللون الإسلاميون، تؤكد أن الأخطاء الكارثية لأمريكا في أفغانستان، لم تكن كل شيء، وبعض محاسنها ولمساتها البيضاء على البلاد كبيرة للغاية، حيث توسعت بشدة في إنشاء المدارس المدنية التي زاد حجمها عن المدارس التي خرّجت أنصار طالبان بأضعاف مضاعفة، ما خلق أجيال أكثر تحضرًا واللغة السائدة في المجتمع نُزع عنها العنف بشكل كبير، وتأثرت طالبان بذلك باعتبارها من نفس نسيج المجتمع. 


كما يزعمون أن طالبان أصبحت أكثر سياسية، وأكثر تفهمًا مع خصومها على مدى السنوات الـ18 الماضية، حيث تعلمت جيدا من تطاحن الجماعات الدينية على الأرض سواء داخل أفغانستان أو خارجها، إنها لن تكسب من ذلك بل على العكس، تخسر الجماعات الإسلامية كل الفرص والانتصارات التي تحققها بسرعة البرق، بسبب ضعف القيادة والأخطاء المتكررة بحق مكونات المجتمعات المختلفة. 


كما يزعمون أيضًا أن طالبان تعلمت جيدًا من التجربة الجهادية الأولى لها في الحكم خلال بداية الألفية الثانية، قبل أن تنتزع من السلطة بتحالف دولي بسبب إيوائها زعيم تنظيم القاعدة والأب الروحي لكل الجهاديين في العالم بالعصر الحديث أسامة بن لادن، وصراعها الذي تأسس على ذلك لمدة 20 عامًا لاستعادة السلطة مرة أخرى. 


يؤكدون أنها أصبحت لا تنخدع بسُكَّر الانتصارات، حيث تخطت هذه المرحلة، وأصبحت تلتفت إلى التحديات، وهذا سر حديث قياداتها الدائم منذ أيام عن أهمية الوحدة، واتباعهم سياسة ناعمة ومتفهمة حتى لموقف الولايات المتحدة والغرب ومخاوفهم من عودة الحركة للحكم مرة أخرى.


لكن على الأرض لم تتخذ طالبان إجراءات قوية لإنهاء رحلة القاعدة أو الجماعات الأخرى على أراضيها، صحيح أنها لا تريد أفغانستان أن تكون المكان الذي ينطلق منه التخطيط للإرهاب الدولي أو توجيهه لأنهم دفعوا ثمن ذلك على مدى السنوات العشرين الماضية، لكن ما الذي تم على الأرض حتى الآن لمنع ذلك؟


لا شيء بل على العكس، تسعى طالبان لجلب الجماعات الجهادية الباكستانية وتشكيل تحالف معها، ما يجعلها ملاذا جديدا للجماعات المتطرفة الباكستانية، بما في ذلك جيش محمد وعسكر طيبة، اللتين نفذتا هجمات مومباي الإرهابية المدمرة عام 2008.


هذه المخاوف استدعت مخاوف كبار المسئولين في الحكومة الهندية للتحذير من الخطر الذي ينتظرهم حال استمرار طالبان في الحكم، ودعم ذلك خروج الرئيس أشرف غني للتأكيد خلال الأسابيع الماضية أن القاعدة "قوية"، ولها حصون كبيرة في البلاد، وعلاقتها بطالبان وثيقة، بل أقوى من الماضي.


شواهد الأحداث تدعم ما يقوله أشرف غني الذي هرب سريعًا حتى يتفادى مصير الرئيس الأسبق نجيب الله التي أعدمته طالبان في أحد الميادين العامة بمجرد انتزاعها الحكم في التسعينيات، وتؤكد أنهم لا زالوا حصنًا أيديولوجيًا للقاعدة، وليس في صالحهم التخلي عنها، بل ستسعي بكل الطرق لجلب المتطرفين الإسلاميين من كل مكان، على أن تغير تكتيكاتها فلا تدعم عمليات في الخارج وخاصة على المستوى المرحلي، لكنها قد تصبح منصة تستقطب الإسلاميين من كل حدب وصوب، لتخلق دولة مرعبة للمنطقة والعالم في الأمد البعيد.

 

نقلًا عن العدد الورقي…

الجريدة الرسمية