رئيس التحرير
عصام كامل

حيــاة النبي (ﷺ) التجارية والاقتصادية

كانت مكة هي المدينة التجارية الكبرى في جزيرة العرب، إلى جانب أنها المدينة المقدسة وكانت لقريش رحلتان ثابتتان، إحداهما: في الصيف يتّجهون فيها إلى الشام لأن مناخها معتدل والثانية: في الشتاء يذهبون إلى اليمن لأنها دافئة، ولم يكن في أرض الجزيرة العربية مثل هذه التجارة لغير قريش..


السبب في ذلك أن مكة كانت في تلك الفترة جرداء قاحلة ليس فيها زراعة، واشتدّ الفقر على العديد من سكانها حتى أخذ الآباء أولادهم إلى منطقة في مكة ليبقوا فيها مختبئين حتى يموتوا جوعاً، فلمّا علم هاشم بن عبد مناف، ذلك أبى أن يكون بين العرب جائعاً فهذه هي أخلاق العرب التي تتسم بالشهامة، وحتى لا يقلّ عدد العرب من خلال موتهم بهذه الطريقة، أمر إخوته بالذهاب في رحلات للتجارة يتقاسم فيها الغنيّ ما ربحه من تجارته مع الفقير حتى لا يجوع في مكة أحد.

على جمعة يكتب: فلنفرح برسول الله
ففي هذه البيئة التجارية الاقتصادية نشأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فكان أمرا طبيعيا أن ينزع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى التجارة، بعد أن كان يرعى الغنم في صغره، فإن الرعي يناسبه في الصغر، أما إذا كبر، فإنه لابد أن يتجه إلى التجارة الداخلية والخارجية، وأن يعرف الأسواق التي يكون منها الاستيراد، ويكون عن طريقها التصدير، ولابد حينئذ أن يسافر..

ومن الوقائع الثابتة أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) خرج مع قوافل قريش عندما كان عمره يتراوح بين التاسعة والثانية عشر، وذلك حين تعلق بعمه أبي طالب حين أزمع السفر إلى الشام للتجارة، فأخذه معه في الرحلة التي التقى فيها أبو طالب بالراهب بحيرا الذي تنبأ برسالته (صلى الله عليه وسلم) وجينها خشى عليه عمه من اليهود لو عرفوه فرجع به إلى مكة، وهكذا نرى أن صلته (صلى الله عليه وسلم) بالرعي تارة وبالتجارة والاقتصاد تارة أخرى بدأت معه عليه السلام بداية مبكرة تأثرا بالبيئة التي كان يعيش فيها بمكة المكرمة.

لكن الحدث التجاري الفاصل في حياة رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وقع حينما لجأت خديجة بن خويلد إلى محمد بن عبد الله تستأجره ليضارب لها في مالها بعد أن بلغها الكثير من صدق حديثه وأمانته وكرم أخلاقه، فعرضت عليه، أن يخرج في مالها إلى الشام تاجرا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يسمى ميسرة، فقبل (صلى الله عليه وسلم) ذلك، وخرج في مالها فباع واشترى (صلى الله عليه وسلم) ورأت خديجة (رضى الله عنها) أن أرباحها ضوعفت فرغبت فيه زوجا.

نستنتج من تحليل سلوك النبي (صلى الله عليه وسلم) التجاري.
ــــ أن أمانة الإنسان سبيل نجاحه في المجال التجاري والاقتصادي:
تعلمه(صلى الله عليه وسلم) التجارة منذ الصغر، وسمعته التجارية الطيبة ولقبه الصادق الأمين، كل هذا جعل السيدة خديجة بنت خويلد وهي من هي في زمنها أن تختاره للتجارة، فأمانة الإنسان هي سبيل نجاحه، والأساس الذي يبني عليه مستقبله التجاري في السوق بمعناه الشامل، وهي أهم رأس مال يستثمره الإنسان في التجارة، فإذا اجتمع مع الأمانة الصدق _ كما اجتمع في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) توافرت الأرضية التجارية السليمة..

الرسول العظيم
فإذا أضفنا إلى ذلك ذكاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقوته ومهارته، أي جمعه (صلى الله عليه وسلم) بين القوة والأمانة والصدق، تحقق النموذج المثالي الذي يشير إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: "إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ."

ــــ ضرب المثل بنفسه (صلى الله عليه وسلم) على أهمية العمل:
وها هو(صلى الله عليه وسلم) يعمل قبل الرسالة في الرعي والتجارة، وبعد الرسالة يعمل في بناء المساجد، وفي حفر الخندق وفي جمع الحطب، ويعمل في خدمة أهله، ولا ينكر عاقل أن رسول (صلى الله عليه وسلم) كان له نوعًا من الإشراف على تجارة السيدة خديجة (رضى الله عنها) بعد زواجه منها، إشرافا وتوجيها ومراقبة..

فلهذا نؤمن بأن خبرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) التجارية والاقتصادية المستمرة في مكة قد أعانته كثيرا على تنظيم الشئون الاقتصادية والتجارية في المدينة المنورة، بل إنه أظهر عبقرية في معالجة بعض الأزمات الاقتصادية مثل:
ــــ إنشاء أسواق المدينة في مواقع متميزة من الناحية الاقتصادية أكبر دليل على ذلك.
ــــ تنظيمه (صلى الله عليه وسلم) لأسلوب التكافل الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع المدينة الناشئ- الذي يضم أصحاب البلد بثرواتهم ووافدين بلا ثروات وليس لهم إلا خبراتهم السابقة - من أقوى الأدلة على عبقريته (صلى الله عليه وسلم) الاقتصادية.

ـــــ تقديره لقيمة العمل الحرفي واليدوي (الزراعي والصناعي) من أم عوامل النجاح الاقتصادية.
ـــــ فسح المجال أمام المرأة المسلمة ليكون لها حضورها في بناء الاقتصاد الإسلامي، والمشاركة الاجتماعية والاقتصادية.
إنه الوحي الصادق.. مع العقل الواعي.. ومع الخلق الزكي الراقي!!
صلوا عليه وسلموا.
الجريدة الرسمية