رئيس التحرير
عصام كامل

تاريخ من الغناء الهابط !!

كم مذهل من التعليقات والآراء يجرى تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي، تصور مصر المتحولة إلى المدينة الفاضلة عقب قرار منع المهرجانات وحجب شاكوش وأقرانه.. أو تسخر من نظرية عودة الأخلاق التي وقف شاكوش حائلاً أمامها.

 

ولم يتذكر أحد حتي من العارفين بتاريخ الغناء والموسيقي أن المغني في مصر كان يثير الناس ويطربهم بشيء اسمه الهنك والرنك وهي الميوعة والطراوة في الغناء، ابتكرها محمد عثمان منذ أيام الخديوي اسماعيل وحفلاته.

 

وكانت منيرة المهدية تثير حواس المستمعين ببحة في صوتها فيها طابع جنسي، وبعد الحرب العالمية الأولي شقت طقاطيق الأغاني الحسية طريقها لتؤدي بين فصول المسرحيات، وأدى نجاحها بين الجمهور إلى انتشارها. وشارك في هذه الظاهرة ملحنون كبار مثل الشيخ زكريا أحمد، وسيد درويش، ومحمد القصبجي، ومحمد عبد الوهاب..

 

اقرأ ايضا: كلهم يحاربون باسم الرب

 

وغناها أشهر المطربين والمطربات مثل أم كلثوم، ومنيرة المهدية، ونعيمة المصرية، وبديعة مصابني، ومحمد عبد الوهاب، وأغلبها كانت من تأليف يونس القاضى. وإلى جانب أغاني الجنس، انتشرت في هذه الفترة "أغاني الصهبجية" التي تتناول الخمور والمخدرات والقمار والتي حظيت بشعبية كبيرة.

 

وكانوا يتغنون بها في المقاهي وفي حفلات الزفاف الشعبية، وفي تلك الأيام إستمع المصريون ل”بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة”غناء منيرة المهدية وألحان محمد القصبجى، و”الخلاعة والدلاعة مذهبي” لأم كلثوم، و”علي سرير النوم دلعني” للتونسية حبيبة مسيكة، و”شامبانيا يا سلطانة الخمرة” غناء المجموعة في مسرحية فيروز شاه، ولحن سيد درويش وكلمات عبد الحليم دولار المصري..

 

و”اشمعنى يا نخ الكوكايين كخ” غناء منيرة المهدية وألحان سيد درويش وكلمات بديع خيري، والحشاشين (التحفجية) غناء محمد محسن ولحن سيد درويش وكلمات بديع خيري، ومن أغاني القمار “فيك عشرة كتشينة” غناء محمد عبد الوهاب وألحان سيد درويش وكلمات يونس القاضى..

 

اقرأ ايضا: الدولة العميقة في مصر

 

والأمر المؤكد إنه لايمكن فصل هذا الهبوط والتدني عن سياقها التاريخي والاجتماعي، خاصة إذا كانت تحمل إرهاصات سياسية في فترات التحول، وفِي ظني إنها مؤشر يعكس بصدق الوضع القيمي للأمة، فأغنية "السح أدح امبو".. غناها أحمد عدوية عام 1969 مع صدمة النكسة. ولاقت رواجا مذهلا، وفِي العام نفسه غني "كركشنجى دبح كبشه.. يا محلى مرقه لحم كبشه" وكانت من تأليف  الشاعر الكبير مأمون الشناوي ولحنها "حسن أبو السعود"!..

 

كما غنى "بنج بنج" من ألحان الموسيقار الكبير بليغ حمدي عام  1976 ـ عام الحيرة السياسية والمخاض وفي الثمانينات غنى حمدي تبشان أغنية : “أيه الاسا توك ده اللي ماشي يتوك ده”.. وبالتزامن معها أغنية "كوز المحبة أتخرم ادي له بنطة لحام" (مع صدمة الانفتاح)، وعام 1992 غنى حسن الأسمر "يا للي وسطك وسط كمنجة.. وعودك مرسوم ع السنجة.. أنا كنت بموت في المشمش دلوقتي بموت في المنجه"..

 

وفِي عام 2008 غنت دوللي شاهين "لازم يقف عشان أنا جيت"، وفي عام 2009 غنى  تامر حسني "خليها تا كلك".. ثم كانت سنوات الفوضي والتوتر بعد هوجة يناير وتمدد العشوائيات وتزييف الحاضر، فبين فقر وتهميش وجهل وإلهاء الناس عبر كثرة الإنجاب من دون هوادة أو توعية، وتجاهل تنمية الريف، وتحجّر التعليم..

 

اقرأ ايضا: أضغاث أحلام

 

وإهمال ملفات الصحة والثقافة والتنوير، تطور الوضع لتتحول العشوائيات من جيوب سكنية متخمة ببشر على هامش الحياة إلى "قنابل متفجرة" تتطاير شظاياها، وتنتشر نيرانها لتصبح صاحبة اليد العليا، والسطوة الكبرى في الشارع المصري سلوكاً وأخلاقاً، وكذلك ثقافة وفن.

 

ومنها تم تخليق  نجوم المهرجانات وما يمثلونه من فن نابع من تربة الغالبية العددية في مصر، وجدوا من يحنو عليهم من مواطنين أيضاً ينتمون إلى الطبقة نفسها. لكي يتحول أداء المهرجانات هذه الأيام إلى حلبة مصارعة حامية الوطيس بين فرق متنازعة، وجماهير متناحرة، وأيديولوجيات متناثرة، وبقايا تعلق بتلابيب أزمنة دابرة، وإرادات فولاذية ترتكز على الأغلبية، وتتكئ على الشبكة العنكبوتية يتراشق جميعهم بالقول والتدوين والتغريد وإعادة تدوير ما يناسب الهوى.

 

الجريدة الرسمية