رئيس التحرير
عصام كامل

30 يوم في الصين.. وديتوا الشعب فين؟


بلغ تعداد سكان الصين هذا العام نحو مليار وأربعمائة مليون نسمة، بما يمثل نحو 20% من إجمالي سكان العالم. وهنا سيتبادر سؤال منطقي إلى ذهن أي مصري يزور الصين، ويرى الكثافات المرورية في شوارع القاهرة، كيف سيكون الحال عندما نصل إلى بكين ذات الاثنين وعشرين مليون مواطن، علاوة على زوارها؟ كيف تتحرك السيارات في مدينة كهذه؟ وكم عدد رجال المرور المتواجدين في الشوارع يوميا حتى يمكنهم السيطرة على هذه الكثافات؟


حين وصلنا مطار بكين وانتهينا من الإجراءات، وانطلقنا مسرعين نحو الشارع لنرقب هذه الملايين المحتشدة والعالقة في شوارع وطرق العاصمة، خابت توقعاتنا تماما. حيث تحولت كل أسئلتنا المعلقة إلى سؤال واحد سبق أن طرحه الفنان الكبير "خالد زكي" في فيلم "طباخ الرئيس" على أحد مساعديه قائلا: "وديتوا الشعب فين يا حازم؟"

طبعا الشوارع لم تكن خالية تماما كما بدا في الفيلم المشار إليه. لكن هذه الملايين الصينية التي بلغت مليارا وأربعمائة مليون تم توزيعها على مساحة أرض بلغت 9،6 مليون كيلو متر مربع، أي ما يقارب عشرة أضعاف مساحة مصر. ورغم هذا، فإن الكثافة السكانية في الصين تبلغ 147،2 نسمة لكل كيلو متر مربع.

وهذا يجعل السؤال أكثر إلحاحا وهو: لماذا لم تؤثر هذه الكثافة السكانية العالية جدا على انسيابية المرور؟ وكم يبلغ عدد رجال المرور القادرين على أداء تلك المهمة المستحيلة؟

الإجابة ببساطة هي أن هناك التزاما من المواطنين بقواعد وآداب المرور. ولا يهمنا هنا إن كان مرجع هذا الالتزام هو القيم الأخلاقية للشعب الصيني، أم الخوف من سلطة القانون النافذ على جميع المواطنين صغيرهم وكبيرهم على السواء وبدون أدنى استثناء.

 أما فيما يتعلق بقوات حفظ النظام من رجال المرور فسأدهشك حين أقول لك إنني على كثرة تجوالي وتنقلي على مدار الثلاثين يوما في الصين، إلا أنني نادرا ما كنت أشاهد سيارة لدورية راكبة، أو قول أمني، أو نقطة تفتيش ثابتة أو متحركة.

فكل هذه المهام تقريبا قد تم تكليف كاميرات المراقبة بأدائها. ففي بكين وغيرها من المدن بل وعلى الطرق السريعة بين المقاطعات وبعضها، وداخل الحافلات والمتاجر وأبواب المساكن والمنشآت العامة والخاصة وحتى داخل المصاعد توجد أعداد لا حصر لها من كاميرات المراقبة التي تمثل رادعا قويا وناجزا في منع الجريمة والسيطرة على الشارع عن بعد، مع ضمان عدم وجود احتكاك مباشر بين المواطن ورجل الأمن إلا في أضيق الحدود.

الأمر الذي يقلل -بل وربما يمنع- حالة الاحتقان البديهية تجاه السلطات ممثلة في رجل الأمن.

السبب الثاني في عدم وجود كثافات مرورية عالية –اللهم إلا في أوقات الذروة الطبيعية– هو اعتماد نسبة كبيرة جدا من المواطنين على وسائل النقل الخفيف ممثلة في الدراجات الهوائية والاسكوتر. ولا يخفى عليكم بالطبع ما لاستخدام هذه الوسائل من فوائد بيئية جمة، علاوة على تقليل استخدام الوقود، وتخفيف العبء عن وسائل النقل العام.

المهم في الأمر أن الدولة وفرت ممرات خاصة للدراجات تضمن سلامة الملايين من ركابها. كما أن الدولة تشجع على استخدام وسائل النقل الخفيف عن طريق السماح لعدد من الشركات بتوفير آلاف الدراجات في كل مكان بالشوارع والميادين العامة، مع إتاحتها لأي مواطن ليتمكن من استخدامها إلى حيث يريد، وتركها في أقرب نقطة تجميع دراجات بجوار محطة وصوله، وذلك مقابل مبلغ زهيد من اليوانات يدفع إلكترونيا عبر برنامج التواصل الواسع الانتشار بالصين والمسمى WE CHAT.

سبب آخر أفسر به حالة السيولة المرورية الموجودة في مدن الصين، هو توافر وسائل النقل العام من مترو، وقطارات، وأيضا أتوبيسات نقل عام. وهذه الأخيرة بالذات حرصنا أنا ورفاقي من الوفد الإعلامي المصري أن نغامر بركوبها لنخوض التجربة بأنفسنا، بعد أن أرهق ميزانيتنا كثرة ركوب التاكسيات.

وبالمناسبة لم يصادفنا سائق تاكسي يقدر الأجر حسب هواه أو حسب شطارته مع الزبون، ولم يشغل سائق تاكسي نفسه بسرد قصة حياته أو مرض ابنه أو غلاء المعيشة أو غيرها من الموضوعات التي حفظناها عن ظهر قلب في تاكسيات القاهرة. كما أن هناك إلزاما على كل سائقي التاكسي في الصين بتعليق بياناتهم واضحة وبخط مقروء في حال أراد الراكب أخذ بيانات السائق لتقديم شكوى مثلا.

المهم أننا بالفعل ركبنا أتوبيس رقم 11 من حيث موقع فندقنا الموجود في ضاحية "طاي هو" إلى حيث متجر "باندا" الموجود بوسط بكين، المسافة استغرقت نحو 25 دقيقة. وسعر التذكرة ثلاثة يوانات (7 جنيهات تقريبا) أما المواطنون الصينيون فمعظمهم، بل ربما كلهم لا يدفع نقدا، وإنما يكتفون بتسجيل محطة ركوبهم ثم محطة النزول عن طريق الموبايل وباستخدام ذات التطبيق المشار إليه ليخصم من حسابهم البنكي لاحقا إلكترونيا، حتى أن زميلي الإذاعي "هشام مهران" علق على هذا قائلا: "إيه الشعب المميكن ده؟".

وفي رحلة أتوبيس النقل العام المريحة بل والممتعة، وعن المركبة الذكية المراقبة بتسعة كاميرات داخلية، وعن نظافتها، وعن تجهيزاتها لركوب أصحاب الحالات الخاصة، وعن كونها مكيفة الهواء ومزودة بالواي فاي، عن كل هذا حدث ولا حرج. كما لا يمكن تجاهل الإشارة إلى السائق ومدى التزامه بالزي الرسمي، واحترامه لقواعد المرور، ومراعاته للوقوف في كل المحطات سواء تواجد عليها راكب أم لم يوجد.

ولكننا أخذنا عليه وعلى كثيرين غيره من المواطنين، عادة في منتهى السوء وهي البصق في الشارع. وأظن أن على حكومة الصين أن تبذل جهدا أكبر في تنظيم حملات توعية بخطورة هذه العادة على الصحة العامة.

وفي سبيل البحث عن المواطن الصيني، ولماذا لا تكتظ به الشوارع الصينية. أرى أيضا أن إقبال المواطن الصيني على الشراء عن طريق التسوق الإلكتروني، يوفر على كثيرين منهم مشاوير كثيرة تتسبب في استهلاك الوقت واستنزاف المال وازدحام المرور. المهم في الوقت نفسه، أن هؤلاء المواطنين لا يتعرضون –كما عرفت من بعضهم- لعمليات نصب من الشركات التي توفر بضاعتها إلكترونيا.

فالبضاعة المعلن عنها تصل إلى العميل بنفس الخامات وذات المواصفات وبالسعر المحدد سلفا للمستهلك، مما خلق نوعا من الثقة المتبادلة والأمان ووفر في النهاية على المواطن وعلى الدولة كثيرا من الأموال المهدرة في مشاوير لا طائل منها.
الجريدة الرسمية