رئيس التحرير
عصام كامل

رزق عشق الجمال


يخبرنا الأثر اللغوي أن صفة الجمال صفة تلحظ وتستحسنها النفوس السوية شريطة أن تبعث في النفس مسرة وبهجة ورضا. وأرى أن الجميل هو من يحرك النطق فيبوح بملفوظ دال عن رؤية الجمال، وهو كذلك الجميل الذي يترسخ في عمق اليقين بثبوتيته وحقه الأزلي في العمق الوجداني للبشرية.


وهنا يحار الفكر الإنساني وعقله البشري عن الكيفية التي يعبر بها عما استقر في وعيه من الجمال الفطري الذي جبل عليه أو بمعنى أصح الذي رآه في ظلام التكوين حيث لا زمان ولا مكان، والعمر ليس له أمس ولا يوم ولا غد. تلك الرؤية هي بداية الانفصالية، وما يحدث من انفصال واختلاط وشيوع الصفات الأخرى يجعل من العقل البشري متعطشا إلى تلك الرؤية مرة أخرى، وتأتي المحاولة ثم المحاولات المتكررة في وصف تلك المسرة والشعور برضا عما رآه من جمال.

تظل قرينة الجمال متعلقة بالمحال والاستحالة بالتحقق لا ينالها الواقع البشري إلا بالمصادفة كما هي حالة العشاق من المفكرين والفلاسفة، وبالاصطفاء كما هي حالة الأنبياء. يبدع ويتفرد العاشق البشري في نحت ووصف صفة الجمال، وقد يضل به الطريق ويختلط عليه الأمر وتغلظ أفكاره العبارات لأنها نابعة من تجربته العقلية الخاصة فإلهامه هنا عقلي. أما النبي فيختصر الطريق ويرد الجمال بالكلية إلى الغيبية الإلهية حيث الطوطم المقدس وسيطرته على النفوس.

ولأن طريق الأنبياء قصير–زمانيا- وتجربتهم أقصر وأسهل في التمكن؛ فسرعان ما تضل النفوس فتحرف الجمال إلى ملفوظ مبتذل ورخيص غايته التمتع الجنسي. وفي المقابل يستمر طريق العشاق من المفكرين والفلاسفة فلا نهاية لهم وتجربتهم تراكمية طويلة ووعرة قائمة على العقل وهو نفس النهج الذي ينتهجه الأنبياء لكن تلاميذ الأنبياء كالعادة ينتصرون للنفس الضالة لا للعقل فيبور الجمال بين أيديهم ويتعطل ويتوقف عند حد معين من الخيالات التي لا تتجدد بينما ينتصر العشاق من المفكرين والفلاسفة إلى تحصين الجمال بالعقل وتصحيح مساره وامتداده بروافد جديدة حية فعالة. ووسط هذا التحصين العقلي للجمال يظل الحلم به وتحقيقه في الأرض والاتفاق عليه أمرا محالا!

وفي سياق عشق الجمال يحتار المفكرون والفلاسفة في الكيفية التي تصف بها الجمال في عالم ليس له غد فيه الحلم بالجمال غريب معاق غير مكتمل إلا في وهم آخره أكوام من تراب وتعاد الكَرة ويبتكر خيال العقل جماله المشتهى من التراب، ويبدع ويتفرد في وصف جمال غير ملموس. حلقة ودائرة وصراط ليس له نهاية.

وفي هذا المِشْوَار تضل الروح ويجن العقل، ويكون المنقذ هنا رزق عشق الجمال الذي يأتي على هيئة ضي جميل يفج وسط عتمة المحيط، يخبرك أنك جميل وفي معية الجمال، فتصيح في صحوة الأنبياء: أثبت لي أنك أنت! ويجيب عليك العقل في حلة المفكرين الفلاسفة تعلم عشق الجمال!

الجمال ليس معناه وجه جميل أو زهرة أجمل، هو حالة كاملة الملامح والطبع. لكنه مُغلف بالاغتراب وسديم الحيرة والقلق.
فلا تستهينوا بمكر(ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)..
الجريدة الرسمية