رئيس التحرير
عصام كامل

قالت لي القطة


انتقلت إلى شقتي الجديدة منذ ثلاثة أشهر فقط، ورغم ضيق مساحتها إلا أنها مريحة تماما، وتميزها نافذة كبيرة تطل على الشارع الكبير، فحين أفتحها تطالعني أوراق الشجرة العتيقة، التي استوطنت المكان قبل بناء أقدم بناية فيه، ما يجعلها عمدة المنطقة.


لم يكن يؤرقني في البداية إلا قطة نحيفة تسكن سلم البناية، بل تسكن تحديدا البسطة أمام شقتي. هي لا تهش ولا تنش ولا حتى تحرك ذيلها مثل باقي القطط، كلما مررت عليها وجدتها نائمة بنصف عين مفتوحة وأنفاس متقطعة، كرجل سمين يأخذ قيلولته، بينما العيال يلهون من حوله.

سألت الجيران عن تاريخ القطة، فحكت لي صاحبة المنزل وهي تعد لي فنجان القهوة على السبرتاية أنها –أي القطة– لم تكن على هذا الحال، حين دخلت البناية لأول مرة قبل ثلاث سنوات..

قالت العجوز: «كانت مزعجة يا ولدي.. لا تكف عن المواء والعويل مثل أرملة وفية، لكنها مع ذلك كانت نشيطة تطارد الفئران وتخطف الكتاكيت ما دعانا إلى أن نخرج لها فضلات الطعام من بقايا الدجاج واللحوم وخلافه فنضعه لها على البسطة اتقاء لشرها.. ويوما بعد آخر استقر بها المقام في هذا المكان وقلت حركتها حتى انعدمت، فلم تعد تصطاد الفئران ولا الكتاكيت.. ضمنت قوتها فسكنت وسكتت، إلى أن بدأت تزهده وتأكل منه قليل القليل».

شربت قهوتي وانصرفت، بينما ظلت قصة قطة السلالم تنهش عقلي طوال الليلة، وفي الصباح خرجت من شقتي وعبرت من فوق القطة دون أن تحرك هي ساكنا، رغم أن كعب حذائي لامس ذيلها..

مطمئنة هي أو ربما لم يعد لديها اهتمام بما يدور حولها..

حين عدت من العمل توقفت أمام القطة وحملتها بين يدي دون مقاومة منها، ثم دخلت مسكني ووضعتها في المطبخ، ففيه يوجد على الأقل ثلاثة فئران سمينة شاهدتها بعيني، وأظن أنها مجموعة صغيرة ضمن قبيلة كبيرة تسكن مطبخي، الذي استوطنته هذه القوارض المقرفة بسبب وجود فتحة تطل على المنور المتخم بفضلات شقق البناية..

هذه الفتحة كانت محشوة بالشفاط، لكنني تكاسلت عن تركيب واحد غير الذي كان يستخدمه سكان الشقة السابقين، والذين أخذوه معهم حين رحلوا..

كان في خيالي أن القطة ستنقض على الفئران وتخلصني منها، لكن ما حدث كان غير ذلك ماما..

في خلال أسبوع واحد لاحظت أن القطة أصبحت هزيلة بشكل مخيف، فهي لا تأكل شيئا.. فلا أنا أزودها بحصتها من الطعام السهل، ولا هي تطارد الفئران لتصطاد طعامها.. والأدهي من ذلك أنني لاحظت بعض الجروح في أماكن متفرقة من جسدها، وكأن أسدا قد نهش لحمها في غير موضع..

وقفت مندهشا من منظر القطة وحالها، ورحت أحادثها كطفل يكلم لعبته مبينا تعاطفي ومواساتي.. قلت ربما تفهم القطة من تعبيرات وجهي أنني أساندها وأخفف عنها، لكن حدث ما لم أتصوره..

قالت القطة لي – نعم تحدثت- وهي تبتسم: «لمَ تواسيني يا هذا؟!».

يا الله، أتتحدث القطط؟!

قلت لها وأنا معلق ما بين الحلم واليقظة: «ماذا؟ هل تحدثت للتو؟!»..

ردت القطة وهي تتثائب: «نعم.. لكن لا تغير الموضوع.. لم تواسيني أترى فيّ شيئا يستحق المواساة؟»..

تجاوزت الدهشة وأجبتها: «كل هذه الجروح وتسأليني؟ بل قولي لي أنتِ من نهش لحمك هكذا. أهي الفئران».

بانزعاج صاحت القطة: «ليس صحيحا إن ما تراه مجرد وهم.. أنا سليمة ولا أعاني شيئا، عليك أن تراجع طبيب العيون».

أنهت القطة كلامها ثم همت مسرعة وقفزت من فتحة الشفاط، لتسقط في المنور ميتة!

ماتت القطة لكن حكايتها لم تنتهِ، إذ إنها في تلك الليلة زارتني في الحلم وهي تلبس ثوب الرجل الحكيم، وقالت لي وهي تتثائب: «نحن لا ننهزم حين يغلبنا الأعداء، لكننا ننهزم حين نرتضي العيش كما يريدوننا أن نعيش».

الجريدة الرسمية