رئيس التحرير
عصام كامل

ملحمة بين أربعة جدران


حياة ضارية عصفت بأسر، فقدت الأب أو الأم أو كليهما معا، وقيض الله للأبناء الصغار من أمسك بدفة المركب وأحكم قبضته الحكيمة عليها، رغم الأمواج العالية، وشرع في تحديد بوصلته، متوكلا على الله نحو إكمال المشوار بلا كلل أو راحة، حتى تكتمل الرسالة وتؤدى المهمة على أكمل وجه.


مؤخرا، دشنت إحدى صفحات موقع التواصل "فيس بوك"، التي تهتم بتناول تجارب وخبرات المسافرين حول العالم وأخبار المناطق السياحية، مسابقة جائزتها عبارة عن رحلة مجانية لأحد أماكن سيناء الساحلية الساحرة. وقامت فكرة المسابقة على رواية موقف إنسانى من خلال منشور على الصفحة، حدث بين المشترك فيها وبين والدته على مدار عمره، والفائز هو أكثر المنشورات تفاعلا من الزوار.

انتهى الإعلان عن المسابقة، لتنهال فيما بعد سلسلة تدوينات إنسانية مبكية، كُتبت بمشاعر جياشة، تروى كفاح أمهات صمدن مع أولادهن في وجه رياح الزمن العاتية، وشقيقات حملن لواء مسئولية مبكرة بعد وفاة الأب والأم، وخالات تحملن مسئولية أبناء شقيقاتهن دون كلل أو امتعاض.

ومن بين المنشورات التي لاقت تفاعلًا محببًا من متابعى الصفحة انتقيت ست قصص تمثل ملاحم رائعة، جسدت نموذجا لأسطورة قاسمها المشترك حياة، وأم، وأخت، صنعت ملهما وقدوة في كل أسرة يندر أن تجود الأيام بمثله.

الملحمة الأولى
«أبويا مات من ٢٦ سنة، وأمى كان عندها ٣٠ سنة، تركنا خمسة أبناء، أربع بنات، وولد، أكبرنا، كانت في أولى إعدادى ماكانش سايب غير معاش بسيط كل شهر لا يتجاوز 100 جنيه، بس عمر أمى ما كان نفسها في حاجة وجابتها لنفسها، كان كله لينا، كانت بتطلع الأكل من فمها وتديه لنا، جوزتنا كلنا، ولحد النهاردة شايلة همنا، أنا إتاخرت شوية في الحمل، ولما حملت ماكانتش بتخلينى أقوم من مكانى..

كانت بتجيب لي الأكل لحد السرير، رغم مرضها الشديد، نفسي أفرحها وتطلع تغير جو وتنبسط شوية بعد الرحلة الصعبة دى، ربنا يخليها لنا، لأنى مهما أعمل لها مش هقدر أرد جزء من اللى عملته علشانا، ونسيت أقول إنها كان عندها ورم وشالته، ولأول مرة تدخل العمليات كنا بنموت علشانها، وكانت بتحاول ماتبينش قدامنا حاجة مع إنها كانت خايفة جدا».

الملحمة الثانية
«توفى والدي وأنا عمرى تسع سنين وأخويا خمس سنين وأختي ١٤ سنة، وكنا صغيرين مش عارفين يعني إيه بقينا من غير أب، والناس كلها عمال تواسينا، وتبصلنا باستعطاف، الحمد لله دلوقتي أنا بقيت في سنة تالتة كلية الطب وأخويا في تالتة ثانوي وأختي بتحضر الماجستير، في الحقيقة أمي بقت أب وأم في نفس الوقت..

ورغم إننا في بداية أزمتنا ناس كتير راهنت على أنها مش هتعرف تربينا وتتحمل مشقة الطريق لوحدها إلا إنها أثبتت للكل أن فيه ستات بمائة راجل، أمي كانت بتشتغل في وظيفتين علشان تقدر تتكفل بينا، ومتحسسناش إننا في حاجة لأى حد، الأول باعت كل ذهبها وكل حاجة حلوةعندها لعلاج بابا اللي كان عنده سرطان، ودلوقتى هي في سن الخمسين من عمرها، ولسه بتشتغل وترعانا، والصراحة دي مش أول مرة أقدم لأمي في مسابقة، لأن دايما بقدم لها في أي مكان بيعطي لقب أم مثالية زي كليتي أو أي مؤسسة والحمد لله بتفوز بيها بجدارة».

الملحمة الثالثة
«خالتي تزوجت أبي بعد وفاة أمي علشان تربينا، تزوجته وهي عندها 17 سنة، وهو كان 40 سنة، ضحت بحياة تحلم بيها أي بنت مع شاب في عمرها، وشالت المسئولية وتعبت علشاننا كتير، عملت لنا أكتر من اللي أمي الله يرحمها كان ممكن تعمله لنا، كنت أنا في سنة أولى إعدادي، وأخويا التاني في تالتة ابتدائي، وأخويا الصغير عمره سنة..

والحمد لله كملت معانا المشوار بنجاح، لحد ما طلعتنى أنا مهندسة، وأخويا التاني ضابط، والتالت جاب 96% في الثانوية العامة السنة دى، وداخل كلية الهندسة بإذن الله، شالت حمل كبير ومسئولية أكبر وتعب ورا تعب، يارب اجزيها عنا خير وجنة، ويارب أقدر أوفي لو جزء صغير من جميلها الكبير علينا، اللي مش هقدر أوفيه مهما عملت أنا وإخواتى».

الملحمة الرابعة
«أمى متوفاة من ٣ سنين بعد معاناة سنتين مع مرض السرطان، لحد ما ربنا رحمها منه، كان عندى وقتها ٢٠ سنة، وعلى قد ما عشنا في وجع وغربة أنا وإخواتى، على قد ما كانت أختى الكبيرة بتعمل كل حاجه من أجلنا، عشان مانحسش بأى نقص، ولو تطول تدينا عينيها بس نبقى راضيين وكويسين، وفعلا أنا مفتكرش إنى شيلت هم حاجة في الدنيا بعد وفاة ماما، وأختى موجودة..

معتقدش في حد في جدعنتها وحنيتها مع كل الناس بشهادة كل الل حوالينا، مابتقولش عليا أنا وأختى الصغيرة غير بناتى، ضحت بحاجات كتير أوى عشان تبقى معانا، أولهم بيتها وجوزها، علشان ماتسيبناش وحدنا للدنيا تلطش فينا، خصوصا وإننا مالناش حد يسأل علينا، مشوفتش حد بيبَدى حد على نفسه، إلا هي، ولا حد يشيل اللقمة من فمه علشان إخواتها زيها، ربنا يحفظها ويجازيها عنا خير».

الملحمة الخامسة
«والدي تعب من ١٤ سنة بعد حادثة كبيرة، ووالدتى خدمته سنين بكل حب، إلى أن توفي، وقعدت أمى تربينا، إحنا 3 بنات وولد، ربتنا لوحدها من غير مساعدة من أعمام أو أخوال ولا عائلة، وقفت بطولها في وش الحياة علشانا، أمي أجدع ست في الكون، دخلتنا إحنا الثلاث بنات كلية الصيدلة وجوزت بنت مننا..

أمي صبرت كتير لأن والدي توفى وهى في عز شبابها، أمي دي سندي وضهري، ربتنا على الصلاة والدين والأصول، ادعو لها ربنا يشفيها ويخليها لنا، أمي تستحق الأم المثالية، ادعو لها يخليها لنا وتكمل رسالتها معانا».

الملحمة السادسة
«أمي أعظم أم في الدنيا والله، الست دي المفروض نسميها "جبل" استحملت اللي 10 رجال ما يعرفوش يستحملوه، أنا عديت مرحلة علاجية صعبة جدًا، قعدت اكتر من اربع سنين في عمري بحارب السرطان، أخدت 25 جرعة كيماوي منهم 7 مكثفين، كنت بموت فيهم من الوجع، وعملت 30 جلسة إشعاع ذري، ده غير 6 عمليات جراحية عملتها.

أول عملية أنا قعدت فيها 9 ساعات وهي الاستئصال ،وهما بياخدوني من ماما علشان يجهزوني لدخول العملية وهي واقفة لوحدها عمري ماهنسي أبدا لحظة الوجع اللي كانت في عيونها، ولا عمري هنسي اللحظة اللي سمعت فيها كلمة بتر رجلي، اللحظات الصعبة اللي عشناها مع بعض في المستشفى بالشهر، وكانت بتنام على الأرض في عز البرد، من غير دراما كتير ولا وجع، لأن الحمد لله أنا دلوقتي بقيت زي الفل بفضل الله عليا وبفضل وجود ماما وبابا وإخواتي..

أنا خسرت طرف من أطرافي وبستخدم طرف صناعي، لكن كسبت حاجات كتير قوي فوق ما كنت اتخيل، أهمها هو جوزي حبيب عمري وبنتي آسيل الجميلة أنا تعبت كتير جدا واتحملت اكتر بس بقيت أقوي بصبري وقناعتي بالرضا، وبدأت حياة جديدة مع ناس جديدة، ممتنة لكل لحظة وجع عيشتها ممتنة لأمي وجوزي اللي ساندني دائما حتى لو بكلمة من غير ما يقصد، ولأنه حارب كل الظروف علشان يبقي معايا ونكمل سوا، ربنا يبارك ليا في أمي وأبويا وكل حبايبي أنا من غيركم بعد الله سبحانه وتعالى مكنتش هقدر أكمل»

تعجز الأقلام عن وصف كم المشاعر الجياشة، في تلك النماذج، كيف صبرت وتحملت وربت وساعدت، كيف علمت وثابرت وكافحت دون سند أو معين إلا الله وحده عز وجل، والتوكل عليه.

عينات مجتمعية بسيطة تحيا بيننا، وربما تمر إحداهن إلى جوارنا في طريق ولا نعلم أننا إلى جوار قامة إنسانية، حملت أسطورة إنسانية، وما كانت تلك النماذج إلا بعض من مئات بل وآلاف قصص الكفاح والبناء والاعتماد على النفس.

جنديات مجهولات يقاتلن محاربا شرسا اسمه الزمن، وفى الحقيقة لا يعرف قيمتهن إلا من جاورهن وذاق طعم عطائهن، فأنس وأطمئن بوجودهن، واستظل بحنانهن، فلم يطق أو يتصور الحياة بدونهن.

نماذج تستحق التتويج، قدوة ونبراس ومعلم طريق، ملحمة وراء كل باب، عنوانها الأساسي «العطاء بلا انتظار مقابل».

الجريدة الرسمية