رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

مصر الأضحية


عفوا، يا سادة! أنا لا أصدق أغلب العبارات المنمقة التي تفوح منها ملامح اللزوجة والاستنطاع والاستغفال والاستهبال عندما تذيع أخبارا عن نهضة مصر.


لا أصدق مساحيق تلك العجائز المتصابيات المتصدرات المشهد العام بملابسهن البيضاء في حفلات الرقص التي تكشف ازدواجية المعايير والتحفيل والتسخيف والتفضيل. ولا أصدقهن حتى في ملابسهن السوداء في عزائهن لما أصاب مصر من فقد وانفجار وموت للعيال.

مقياس رفاهية مصر عندي يبدأ من المناطق التي أعرفها وتعايشت معها وتنفست فيها وتشكل بوجداني عالم مصر الخاص بكل ذكرياتي في مرحلة طفولتي وصباي وشبابي. ثمة سحر مربوط لي تحت عتبات هذه الأحياء مثل قريتي مرتعي الأول شنبارة الميمونة، وما جاورها من قرى سابحة في عالم جمالي من الفن الرباني وعبقرية المصري في بناء دياره وتخطيط مدقاته وحقوله كما قرية بني قريش، وعزبة الصياغ، والسنيطة، وأبو طوالة، وكفر عرفة، وكفر النصارى، وأبو نجاح، والمفتي..

وعلى مدقات هذه الطرق رأيت المعرفة هناك كانت بكرا طازجة كما آيات الوحي الأولى التي تلقيناها في كتاتيب هذه القرى على ألواح من معدن وأقلام من غاب النيل...

وعلى صعيد متصل من الجمال النسبي في منطقة العمرانية، وفيصل، والهرم، والمنيل، والمنيب، والجيزة العتيقة وما جاور أم المصريين وشريط السكة الحديد. والحق كنت أرى هذه المناطق كما الكهل الريفي الحكيم الذي حنت ظهره غفلة الناس من حوله وكفرانهم بقيمته التاريخية والحضارية. لكن على كل حال كنت أرى هذه المناطق جميلة فيها من دفء وصدق التاريخ الحقيقي لأن طرق هذه الأماكن كانت يوما طريقا مؤديا لأسلافنا نحو بناء نهضتهم المعروفة بالأهرام!

ما زال يتوج مخيلتي حافة ترعة الزمر المخيفة، وسور مصنع البلاستيك، وشركة الدخان، وشونة بنك مصر، ومزرعة المواشي التي - على ما أتذكر- أصبحت حيا خاصا عرف باسم مساكن الضباط الذي كان أول كمبوند حديث وجميل، وحي الزهور، وحي الفلل القديمة والعتيقة في العمرانية الشرقية. ثم سينما الأهرام ورادوبيس الصيفي، واستوديوهات شارع اليابان وأكاديمية الفنون، والطالبية والتعاون وحسن محمد في الهرم، وصولا إلى ترعة المريوطية وغيطان الزرع والنخيل الكبيرة على مدد الشوف على حواف فيصل والعمرانية والمريوطية والزمر والمنيب. ورجوعا إلى البحر الأعظم وكورنيش المنيل وسينما فاتن حمامة وجسر المقياس التراثي، والقلعة والأزهر والمقطم ومقابر صلاح سلام والأتوستراد والظهير الأصفر لصحراء القاهرة القديمة.

ما سبق عشته في رحلة عمر طولها عشرون عاما من سنوات عمري في مصر. أضف إلى هذا العمر خمسة عشر عاما من العمر الأول في قرى الدلتا بقرية تعد من قرى تخزين القمح من أيام أجدادنا العظام القدماء فأول ما صافح عيني في قريتى صوامع القمح الطينية المنتشرة فوق سطوح البيوت الريفية. كانت حينها تجسد معاني النهضة.

كنت أنا وأقراني في قريتنا القديمة أو في تلك المناطق عيالا لديهم كم من الوعي والأحلام والعقل يعمر مصر. لكن سقط ما سقط منا في مستنقع الكرش والصلع والشيب وقلة الحيلة والسعي وراء قروش عليلة، ومنا من عانقته فرصة النداهة ورحل بعيدا حزينا لم يشعر بطعم النجاحات رغم التحقق وإثبات الذات.

وفي عتمة المصري وضيق يده وعقله وفرصته وتحققه في مصريته باتت بهجة مصر كما الغريب عابر سبيل يحمل بقجة على ظهره ويطوف البلاد طولا وعرضا يدق القلوب قبل الأبواب طمعا في الاستقرار والتعايش والعمار. لكن أصحاب الأبواب لا قلوب لهم ولا عقل لديهم. كل ما عندهم جدران من النقل والتعاسة السلطوية والاستبداد والفشل الجمالي الذي شوه حضر وريف مصر.

مع مرور الوقت أصبحت كل هذه المناطق والأماكن سخفا رزيلا معتما متربا معتما لا مكان فيه لرفاهية ولا حق في حياة. الناس هناك ليسوا بناس، لا عقل ولا ضمير ولا مراعاة خاطر للطريق ولا الجيرة ولا العشرة. تفرغت هذه الأماكن والعقول وأصبحت عشوائيات فارغة قائمة على الاستغلال والاستبياع. ومن هذا المنطلق نحن نقدم مصر أضحية لنفدي شهوتنا النتنة في التسلط والاستحواذ.

النهضة الحقيقية تبدأ من الريف والحضر.. من هذه الأماكن تبدأ مصر في استنهاض عيالها وناسها؛ لينهض الإنسان المصري. حينها نستطيع أن نحتفل بالعيد والأعياد ونقدم أضحية سمينة وثمينة ونفيسة لنفدي بها تحضرنا وتسامحنا ونهضتنا وتقدمنا.

وأقول لبلدي مصر، كل عام وأنت بخير أو هكذا أتمنى لك أن تنعمي بالخير للأبد بلا إرهاب وبلا غباء ولا تسلط.
فلا تستهينوا بمكر (ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)..
Advertisements
الجريدة الرسمية