رئيس التحرير
عصام كامل

المصريولجي: أصل المصريين


قبل أكثر من 750 عاما غادر لويس التاسع عشر بسلامته مصر بعد أن فشلت حملته الشهيرة، وأُسر ثم أطلق سراحه مقابل فدية كبيرة جمعتها أم عياله بمد يدها للي يسوى واللي ميسواش، بينما استوطن عدد كبير من جنوده الفرنسيس مصر فعاشوا بين أهلها وتزوجوا منها، وأنجبوا وذابوا مع الجموع.


هذه مجرد قصة من بين آلاف القصص الحقيقية لأجانب دخلوا مصر لأسباب مختلفة، فأصبحوا جزءا من تاريخها.. تأثروا بها وأثروا فيها، لكنهم أبدًا لم يكونوا «زيتا في ماء».

ربما يصلح ذلك لأن يكون مدخلا للإجابة على واحد من أقدم الأسئلة وأكثرها بحثا: ما هو أصل المصريين؟ لكن دعنا أولا نرى ماذا يقول الدستور المصري عن الهوية..

يقول في مادته الأولى: إن « الشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تكاملها ووحدتها، ومصر جزء من العالم الإسلامي، تتنتمى إلى القارة الأفريقية، وتعتز بامتدادها الآسيوي، وتسهم في بناء الحضارة الإنسانية».

أما بعد..
قبل سنوات، أعلنت نتائج ما أُسمي «أول تحليل كامل لجينوم سكان مصر القدماء»، وجاء فيها أن جذور المصريين تعود لبلاد الشام وتركيا.. صلاة النبي أحسن!!

هذه الدراسة التي نُشرت نتائجها في دورية تابعة لمجلة «نيتشر» ذائعة الصيت والغنى، قوبلت بموجة من الرفض، وأبرز من فندَّها هو الأثري المصري "عبد الرحيم ريحان" الذي قال إن أصول المصريين «مصرية خالصة»، ثم لكَم الدراسة البريطانية ضربة خطافية في عينها، حينما أشار إلى أنها اعتمدت على تحليل الحمض النووي لتسعين مومياء عاش أصحابها من العام 1400 قبل الميلاد وحتى العام 400 بعد الميلاد، وهي مومياوات من أعمال حفائر في منطقة واحدة تسمى أبو صير الملق بمحافظة بني سويف!

وبعيدا عن الجين والجينوم وكلام الفرنجة اللي ميأكلش عيش، مازالت معركة أصل المصريين دائرةً بين نفر منا، فأحدهم لا تعجبه «مصر العربية»، وآخر يكفر «مصر الفرعونية»، وثالث يرفض «مصر المسيحية».. إلى جانب هذا الذي يتحدث عن أفريقية مصر، ورفيقه الذي يشير إلى انتسابنا لحوض البحر المتوسط، وغيرهم الكثير والكثير ممن يستندون في أحاديثهم إلى نظريات علمية وكتابات موثوقة وحكايات وقصص متداولة وأحيانا أساطير..

مثلا، من أقوال المفكر الراحل الكبير جمال حمدان: «نحن لا نرى الشخصية المصرية - مهما كانت متميزة- كأي شيء سوى جزء من شخصية الوطن العربي الأكبر».

ورأى عميد «الأدب العربي» طه حسين أن: « الفرعونية متأصلة في نفوس المصريين، وستبقى كذلك بل يجب أن تبقى وتقوى، والمصرى فرعونى قبل أن يكون عربيًا».

حرارة هذه الحرب لا يمكنها أن تنفي الحقيقة الوحيدة المؤكدة في الحكاية، فالمصريون أصلهم مصري، أو لنقل أن المصري يُصنع ولا يولد، فمهما كان أصلك وعرقك ونسبك فأنت مصري بمجرد العيش فيها، فالمصريون لا يعرفون العنصرية بشكلها الفج، وأبرز دليل على ذلك أننا مثلا لم نعرف ما يسمى بـ «المخيمات».. تلك المساحات التي تخصصها الدول للاجئين والمهجرين إليها من دول أخرى. 

حتمًا، سمعت عن الجريج والطليان والفرنسيس والأرمن وغيرهم، وهي أسماء لجاليات أجنبية عاش أبناؤها على أرض مصر فأصبحوا مصريين، بل إن البعض منهم كان ينزعج للغاية من مسمى «خواجة»، وذلك قبل أن يذوبوا هم وأبناؤهم في المزيج المصري ليكونوا جزءًا منه.

مصر طيبة مع الطيبين، مَن دخلها مسالمًا احتضنته وعجنته في طينها، وطبعته بقالبها وقلبها، ليصبح واحدًا من أبنائها دون النظر إلى دينه أو شكله ولونه.. هل يمكنك مثلا أن تشكك في مصرية فريد الأطرش وفايزة أحمد، وهند صبري وبيرم التونسي، ويعقوب صنوع وشطة (نجم الأهلي السابق)، وداليدا ومحمد خان، وستيفان روسيت وبشارة واكيم وماري منيب، ونجيب الريحاني وميمي وزوزو شكيب وعبدالسلام النابلسي.. بشارة وسليم تقلا مؤسسي جريدة «الأهرام».. والمسرحيين مارون وسليم نقاش؟!

الأسماء السالفة تأتي ضمن قائمة تضم آلافًا من العرب والأجانب (في آخر 200 سنة فقط) كانت مصر بالنسبة لهم أرض الأحلام.. زرعوا فيها بذور موهبتهم وحصدوا محبة وشهرة، خاصة في مجالات الآداب والفكر والفنون فصاروا مصريين تأثروا بها، وأثروا فيها، وكانوا جزءًا من تاريخها.

أتذكر حوارا دار بيني وبين مخرج سوري قبل شهور، قال لي نصًّا: «عشت في ليبيا 30 سنة بين أهلها الطيبين لكني كنت سوريًّا يعيش في بلد آخر، أما في مصر فاحتجت لعام واحد، وبعدها أصبحت مصريًّا خالصًا، آكل الطعمية، وأجالس الناس على المقاهي، وأنتقد الحكومة».

مصر بلد تحضن كل الحضارات والثقافات، لا تغير جلدها أبدًا وتفرض طابعها على كل من يعيش فيها، وهو، بالمناسبة، طابع حي – ليس جامدًا – يقبل من الوافدين ما يتماشى وطبيعة أبناء النيل، لكنه لا يتغير كليًّا، واسألوا الإنجليز الذين احتلوا البلاد لأكثر من 75 عامًا فخرجوا منها بإنجليزية عرجاء وعربية مصرية «مكسرة»..

الخلاصة، المصري يُصنع ولا يولد.. وإذا سألك أحدهم ما هي أصول المصريين؟ فقل لهم إن المصري «مصري».. هي السؤال والإجابة.. السبب والنتيجة.. «بلد ما تعرف لو ساكنها ولا هي بتسكنك!».
الجريدة الرسمية