رئيس التحرير
عصام كامل

"العقل المتقد".. الفيلسوف هابرماس يحتفل بعيد ميلاده الـ 90

فيتو

"المدافع عن الحداثة"، "بطل التواصل"، حتى مع بلوغه التسعين، يسهم فيلسوف ألمانيا الأبرز يورجن هابرماس في النقاش العام، كـ"نغم" يحدد إيقاع الجمهورية ويطرح أسئلة وإجابات حول التواصل بين أفراد المجتمع وحول مغزى الديمقراطية.

كان هابرماس يروج قبل أسابيع قليلة فقط في برلين لأوروبا ما وراء القومية المتحجرة. في العام الماضي منح جائزة الإعلام الألمانية الفرنسية تكريما له لالتزامه من أجل أوروبا ديمقراطية. "آه يا أوروبا" يتحسر هابرماس في كتيب صدر قبل سنوات يشمل مقالات وخطب حول اندماج أوروبا ووحدتها.

بلا جدل، يعد هابرماس من بين الفلاسفة وعلماء الاجتماع المؤثرين من ألمانيا. ورغم كبر سنه إلا أن "العقل الوهاج من فرانكفورت" كما أطلقت عليه وسائل الإعلام لا يتوقف عن العطاء. إذ سيصدر له في سبتمبر في دار نشر زوركامب كتاب جديد يحمل عنوان "تاريخ الفلسفة"، من مجلدين مكونين من 1700 صفحة يكشفان كيف تطور الفكر منذ العصور القديمة.

مولد النبضات لجيل 68
حول القيم الكبيرة يدور نقاش هابرماس ولا مانع لديه للدخول في نقاش وجدل واسع للدفاع عن تلك القيم. فهو من المفكرين السياسيين الكبار القلائل في ألمانيا الذين مازالوا على قيد الحياة، حتى أن أطروحة الأستاذية "التحول البنيوي في المجال العام" التي قدمها في 1961 في ماربورغ مازالت تُعتبر رائدة في مجالها حتى اليوم رغم كل العقود التي مرت. هابرماس يلخص "المجال العام" كفئة تاريخية ويوضح أنه في معنى دقيق لا يمكن التحدث عن ظهور "المجال العام" أولا، إلا في إنجلترا في أواخر القرن السابع عشر وفي فرنسا في القرن الثامن عشر.

وُلد يورجن هابرماس في الـ 18 يونيو 1929 في دوسلدورف، ويعيش اليوم في بلدة شتارنبيرج في بافاريا شمال مدينة ميونيخ، لكن اسمه ظل مرتبطا بفرانكفورت. فالأب الروحي للنظرية النقدية كان كمولد نبضات لمدرسة فرانكفورت الفلسفية. وقد قدم أطروحة الدكتوراه في بون حول الفيلسوف شيلينغ (1775 ـ 1854).

وفي 1964 خلف ماكس هوركهايمر في كرسي الفلسفة وعلم الاجتماع بجامعة فرانكفورت، حيث عمل حتى 1971 ـ في زمن الاحتجاجات الطلابية.

وكثيرون من جيل 68 استشهدوا به ورأوا فيه المحرك الفكري، لكن عندما تطرفت الحركة انتقدها هابرماس بكل انفتاح. وفي كتابه "نظرية الفعل التواصلي" نسج في 1981 خطوط عمل إرشادية للمجتمع الحديث. وفي نظريته تكمن أسس المجتمع في اللغة، كوسيلة تفاهم تمكن من العمل الاجتماعي. هابرماس يطرح أسئلة حول مفاهيم منها: كيف يمكن لـ"إلزام الحجة الأفضل غير الملزم"، لـ"الحوار المثالي"، لـ"الحوار الحر من دون هيمنة" أن تتحقق في الديمقراطية؟.

اللغة منبع العقلانية

يؤمن هابرماس بقوة التواصل، ورقة لغته المميزة كفيلسوف تكشف عنها عناوين إصداراته: "المعرفة والمصلحة"، " بين الحقائق والمعايير" وكتاب " الحقيقة والتبرير". وفي النشاط الأكاديمي على الأقل حققت هذه الكتب الأخيرة شعبية بسبب رنينها الساحر الذي يسلط الضوء على هذه المفاهيم ويربطها معا. وعلى هذا الأساس تظافر عبر العقود في تصنيف فلسفة هابرماس الفكر الملتزم والأسلوب الرفيع حتى ولو أن أسلوبه تطلب الكثير من الصبر وفن التمييز من قبل قراءه.

بالنسبة لهابرماس، فإن القضايا ليست سهلة، لاسيما عندما يتم التطرق لها، والتناقض الوجداني يمكن أن يكون جيدا للشعر غير أنه ليس في محله في الفلسفة السياسية، وهابرماس فيلسوف سياسي بامتياز. وما كان له إلا أن يكون كذلك، فقد عاش سنوات شبابه في زمن الكارثة (النظام النازي والحرب).

وعلى غرار مارتن فالزر وغونتر غراس وزيغفريد لينتس وجميع المفكرين والفنانين البارزين للجمهورية الاتحادية (ألمانيا الغربية)، ترعرع يورغن هابرماس أيضا في ظل النظام النازي. تجربة كان لها أثر على عمل حياته. وجعلته يطرح أسئلة حول ما الذي حصل كي تتطور الأمور إلى هذا الحد؟ ما الذي حصل للألمان كي ينتخبوا في 1933 مستشارا ثائرا ومعاديا للسامية؟ وبالأخص، كيف يمكن تفادي حدوث مثل هذا النتائج وعودة مثل تلك الأجواء مرة أخرى؟


فلسفة "ما بعد ارتكاب الذنب"
هذه التساؤلات تقع في قلب فلسفة هابرماس. ألهمته نقاش نماذج تواصل معقدة لتصميمات المؤسسات العامة والآليات التي يمكن لأعضاء مجتمعاتها أن يحققوا التوازن في مصالحهم المختلفة. "على نطاق واسع" تم تسمية هذه النماذج الاجتماعية، وهو مفهوم ارتبط بطبيعة الحال بجمهورية ألمانيا الاتحادية، كدولة. إذ لم يعد على المواطنين تلقى الأوامر من فوق، بل التدخل في النقاش العام والتعبير عن مواقفهم وسكبها في نقاش شامل يقع في نهايته الحل الوسط.

نغم الفكر
هل كان لجمهورية ألمانيا الاتحادية أن تكون مختلفة من دون هابرماس؟. كان غيابه سيعني غياب النغم الذي منحته نقاشاته وتعليقاته الفلسفية حول هذه الجمهورية. هذا النغم، المجرد، المستقل، المحصن يشبه نغم موسيقى الروك والبوب التي دخلت إلى الجمهورية خلال فترة ستينات القرن الماضي، كلاهما وضعا الجمهورية في عالم مفتوح، في مجتمع ما بعد الحرب العالمية الثانية.

هذا المحتوى من موقع دوتش فيل اضغط هنا لعرض الموضوع بالكامل


الجريدة الرسمية