رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

عاشوا في مصر (11)


مصر.. كنانة الله في أرضه.. منذ ما قبل التاريخ اتسع صدرها لمن ضاقت عنه كل دول العالم، واحتوت كل الطوائف، وشهدت أرضها نزول الديانات السماوية، وزارها غالب أنبياء الله.. تاريخها سبق تاريخ كل الأمم... إنها "أم الدنيا"، و"المحروسة".. من بين من عاشوا بها، رموز غيرت وجه التاريخ، نروي هنا بعضًا من تفاصيل حياتهم، ونستعرض شيئًا من جوانب عظمتهم.


شيخ العرب همام.. أمير الصعيد
هو شيخ العرب الأمير شرف الدولة "همام بن يوسف بن أحمد بن محمد بن همام بن أبو صبيح سيبة"، وُلِدَ في (1709 م - 1121 هـ)، وتوفي (7 ديسمبر 1769 م - 8 شعبان 1183 هـ ).

من ألقابه: الجناب الأجلّ، والكهف الأظلّ، الجليل المعظم، والملاذ المفخم، الأصيل الملكي، ملجأ الفقراء، ومحط الرجال الفضلاء والكبراء.. عظيم بلاد الصعيد، ومن كل خيره يعم القريب والبعيد. وقد رثاه المؤرخ الكبير عبدالرحمن الجبرتي بكلمات شديدة التأثير.

هو ابن زعيم قبائل الهوارة.. تلك القبائل التي هاجرت إلى مصر من المغرب في عهد الدولة الفاطمية، واستقرت في صعيد مصر، وتمتعت بقدر هائل من الثروة والنفوذ، وسيطر شيوخها على مقاليد الأمور في الصعيد، حتى عام 1575 م (893 هـ). وكان مولده في فرشوط محافظة قنا سنة 1709 م (1121 هـ)، وإليه آلت زعامة قبائل الهوارة.

وفي الشمال، في القاهرة، وبينما كان على بك الكبير يسعى إلى مشيخة البلاد، ويتطلع إلى الاستقلال بها، كان الشيخ "همام" يعمل على مد سلطانه على ولاية "جرجا"، التي كانت تضم كافة أقاليم الصعيد من المنيا إلى الشلال.

ولم تبارح نفوس الهوارة وشيخهم "همام"، ذكرى ثورة الهوارة بزعامة الأمير "حصن الدين بن ثعلب" (1253 م /651 هـ)، والتي انتهت باستقلال الصعيد.

وينجح "على بك الكبير" في مسعاه، فلا تهل سنة 1760 م حتى يصبح "عزتلو" أمير اللواء "على بك" كبيرًا للمماليك، ويتولى منصب شيخ البلد. ويمضي بعدها في تثبيت مركزه بالتخلص من منافسيه من كبار المماليك، من أمثال "عبد الرحمن كتخدا"، و"حسين بك كشكش"، و"صالح بك شاهين".

وأخذ في تعزيز قوته العسكرية حتى بلغ عدد مماليكه الستة آلاف. ومضى في تكوين التحالفات، ونسج المؤامرات للقضاء على كافة القوى المنافسة له.

وينتهي "على" بك من كبار المماليك الذين ينازعونه سلطانه في معركة حاسمة دارت رحالها شمال بنى سويف، سنة 1767 م / 1181 هـ، ليدخل بعد ذلك القاهرة، وقد ثبتت أقدامه في "إمارة مصر ورياستها.. وظهر بعد ذلك الظهور التام، وملك الديار المصرية، والأقطار الحجازية، والبلاد الشامية، وقتل المتمردين وقطع المعاندين، وشتت شمل المنافقين، وخرق القواعد، وخرم العوائد".

وينجح الشيخ "همام" هو الآخر في مساعيه، فلا تحل سنة 1767 م - 1181 هـ، حتى تصبح كافة أقاليم الصعيد، من المنيا إلى أسوان، تحت سيطرته.

ويمضي الرجل قدمًا في تأسيس شبه دولة. فينشئ الدواوين لإدارة شئون الأراضى الواقعة تحت سيطرته ولرعاية العاملين فيها، ويشكل قوة عسكرية من الهوارة، ومن المماليك الفاربن إلى الصعيد؛ فـ "كان عنده من الأجناد والقواسة وأكثرهم من بقايا القاسمية انضموا إليه، وانتسبوا إليه، وهم عدة وافرة، وتزاوجوا وتوالدوا وتخلقوا بأخلاق تلك البلاد ولغاتهم".

وتشيع أخبار مجالسه التي كان يعقدها لسماع شكاوى الأهالي ولحل مشاكلهم، يستوي في ذلك الجميع، الغني منهم والفقير. وقد أدى النظام الذي وضعه الشيخ "همام" للأمن، والعناية التي كان يبذلها لصيانة الترع والجسور إلى ازدهار الزراعة وتحقيق الرخاء للأهالي.

وخشي "على بك الكبير" من اتساع نفوذ الأمير "همام"، فأرسل إليه "محمـد بك أبو الذهب" لمقاتلته، لكنه لم يتمكن من هزيمته، فوافق على الصلح معه، على أن يكون ل"همام" من حدود برديس، وتم الأمر على ذلك، ورجـع "محمد" بك إلى مصـر، فأرسـل "على" بـك يقـول له: إني أمضيت ذلك بشرط أن تطرد المصريين الذين عندك، ولا تبقِ منهم أحدًا بدائرتك.

فجمعهم وأخبرهم بذلك، وقال لهم: اذهبوا إلى أسيـوط، واملكوهـا قبل كل شيء، فإن فعلتم ذلك كان لكم بها قوة ومنعة، وأنا أمدكم بعد ذلك بالمال والرجال، فاستصوبوا رأيه، وبادروا وذهبوا إلى أسيوط، فملكوا أسيوط، وتحصنوا بها وهرب من كان فيها، ووردت الأخبار بذلك إلى "على" بك.

وهكذا كان الصدام بين الرجلين محتومًا، فيحشد له "على بك الكبير" ثلاثة جيوش، ويجمع قوادها، ويوصيهم قائلًا: "اذهبوا إلى أسيوط واملكوها. وتدور المعركة الفاصلة في يونيو 1769 م- 1183 هـ، عند جبانة أسيوط لتسفر عن انتصار ساحق لجيوش "على بك الكبير".

وبعدها "أقاموا بأسيوط أيامًا ثم ارتحلوا إلى الجنوب، بقصد محاربة "همام" والهوارة. واجتمع كبار الهوارة مع من انضم إليهم من الأمراء المنهزمين.. فراسل "محمد بك أبو الدهب" -مملوك "على بك الكبير"- ليراسل "إسماعيل أبو عبد الله" ابن عم "همام"، واستمالته ومناه برئاسة البلاد حتى ركن إلى قوله، وصدق إغراءاته، وتقاعس عن القتال وخذل جنوده.

ولما بلغ شيخ العرب "همام" أنباء خيانة ابن عمه، وتأكد من عجز جيشه، خرج من فرشوط، وتركها بما فيها من الخيرات، وذهب إلى إسنـا فمات هناك، ودُفِن في بلدة تسمى "قمولة". وخلف من الأولاد الذكور ثلاثة وهم: "درويش" و"شاهين" و"عبد الكريم".

وبقيت ذكرى شيخ العرب "همام"، وحفظتها ذاكرة أهل الصعيد، وبثوها في كلمات موال حزين يغنونه كلما هيجت مرارة الواقع شوقهم إلى عدله وشجاعته.
Advertisements
الجريدة الرسمية