رئيس التحرير
عصام كامل

اليمينيون قادمون


يشهد العالم تطورات سريعة ومثيرة للغاية تلغى كل النظريات والسيناريوهات السياسية والاقتصادية، حيث يتجه المزاج العام للشعوب لليمين، والانحياز للدولة الوطنية بفضل الصدمات، التي يثيرها الرئيس الأمريكى "ترامب" ورفاقه من الرؤساء اليمينيين الجدد، في نسج للأحداث تشبه إلى حد ما سبق نشوء النازى في ألمانيا..


ويوما بعد الآخر تحتل الأحزاب اليمينية مساحات جديدة، ولعل مايحدث في إسرائيل من تراجع اليسار وتغول اليمين المتفحش هو امتداد لما يحدث في مناطق كثيرة كانت معروفة باتجاهاتها نحو اليسار في أمريكا اللاتينية، وكما جري مؤخرا في الانتخابات للبرلمان الأوروبي، حيث أظهرت النتائج حصول تلك الأحزاب على ما يزيد على 170 مقعدا أو 23 في المائة من المقاعد البالغ عددها 751 في البرلمان الجديد.

وكانت النسبة في البرلمان السابق 20 في المائة فقط. غير أن هذه النسبة تعد مكسبا لأحزاب اليمين المتطرف حتى وان احتفظت الأحزاب اليسارية الموالية لأوروبا الموحدة بغالبية المقاعد وسيكون البرلمان الأوروبي الجديد مؤيدًا للاتحاد الأوروبي على نطاق واسع، لكنه منكسر أيضًا، مما يجعل وضع القوانين وإجراء التغييرات أمرًا صعبًا..

وتشير الأرقام إلى أن نسبة المشاركة في الانتخابات الأوروبية هي الأعلى، منذ عشرين عاما، وبلغت 51 بالمائة وتشير النتائج إلى اتجاهات الأوربيين، حيث يري بعض الناخبين أن اليمين الأوروبي سيضع حد للهجرة ومنح المزيد من السلطات والصلاحيات للبرلمانات الوطنية وليس لبروكسل. أما الناخبون الآخرون، فيفضلون البديل المؤيد للاتحاد الأوروبي، مثل أحزاب الخضر والجماعات الليبرالية، والتي حققت نتائج جيدة في هذه الانتخابات.

وكان قد اجتمع قادة عشرة أحزاب يمينية أوروبية في إيطاليا بدعوة من رئيس حزب "الرابطة" الإيطالي اليميني المتشدد ماتيو سالفيني، قبل الانتخابات بأسبوع بهدف الحشد للانتخابات، وكانوا يستهدفون أن يكونوا في المرتبة الثالثة في البرلمان الأوروبي، وكان الغربيون بعد الكوارث التي خلفتها الحربان العالميتان على دول العالم، التي قتلت قرابة الخمسين مليون إنسان، قد نأوا بأنفسهم بعد هذه التجربة المريرة عن كل ما يؤدي إلى الحروب والتطاحن بين بني البشر، وبالذات في أوروبا، وتخلوا عن اليمين المتطرف، وأصبحت أحزاب الوسط هي التي تحكم أوروبا وأمريكا، والدول التي تدور في فلكها، مثل كندا وأستراليا ونيوزيليندا.

استمرت هذه الأحزاب في الحكم، تميل إلى اليمين قليلًا، أو لليسار قليلًا، منذ نهاية الحرب العالمية عام 1945 حتى 2008، عندما بان عوار وعيوب هذا التوجه الاقتصادي في الأزمة الاقتصادية الشهيرة التي اجتاحت العالم في ذلك التاريخ، حينها دفعت أسباب موضوعية، وأهمها تدفق المهاجرين واللاجئين إلى أوروبا وأمريكا وكندا، الأمر الذي أدى إلى صعود التيارات الشعبوية، التي تتخذ القوميات اليمينية منهجًا لها، وأصبحت تكبر وتتضخم، وتستقطب أتباعًا جددًا سنة بعد أخرى، حتى وصلت إلى أنها شكلت ماردًا خرج من قمقمه، وأعاد ثقافة عنصرية، تقوم على تفوق العرق الأبيض، على غيره من بني البشر.

وقد أظهر استقصاء للرأى في أمريكا منذ عامين أن أكثر من نصف الشباب هناك لم يعد يُؤْمِن بالرأسمالية كنظام اقتصادى نتيجة للتغير الكبير الذي طرأ عليها وحولها من نظام إنتاجى يمنح الفرص للجميع، ويشجع الابتكار ويحارب الاحتكار إلى نظام استهلاكى شره، منحاز لأصحاب رءوس الأموال على حساب جميع الطبقات وغير عادل في توزيع الفرص..

وذلك نتيجة ضعف الدور الرقابى الحكومى، في الوقت نفسه الذي فشلت فيه آليات السوق في العمل، وتحقيق التوازنات، وما مظاهرات السترات الصفراء إلا أحد مظاهر السخط على الرأسمالية السائدة في الغرب الآن، وخاصة مابين أمريكا والصين ومنظمات النقد والبنوك المركزية بالعالم.

ومصيبة كل السياسيين أنهم يعالجون المشكلات بالآيات نفسها التي ورثوها من أسلافهم، دون مراعاة للأبعاد الاجتماعية والاتجاه لتدليل رجال الأعمال لجذب استثماراتهم، قام بهذا "ماكرون" و"ترامب"، وشن الأخير حروبا تجارية مع الصين وكندا والمكسيك، ومعاداته للعولمة وتخفيض الضرائب على الأغنياء، مما أدى لزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء بصورة مذهلة لأول مرة في التاريخ الامريكى، وهو ما أدى لتصاعد النزعة الشعبوية والقومية يمينًا ويسارا لأول مرة في أوروبا منذ الحرب العالمية..

وهو ما يفسر السلوك الانتخابى الغامض في القارة الأوروبية، بدليل انتخابات السويد وهولندا وألمانيا وانخفاض حصة الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية ويسار الوسط في مقابل زيادة حصة اليمين المتطرف كما في السويد والنمسا وإيطاليا، وفيما يبدو فإنها بداية لصعود لليمين والأحزاب الشعبوية ونهاية للأحزاب الكبيرة كما يحدث في بريطانيا، وتراجعها عن الانضمام للاتحاد الأوروبي نتيجة تآكل وانهيار الثقة بين الناخبين والأحزاب القديمة.

وخلاصة الأمر أن المزاج العام للناس في معظم دول العالم سئم الأحزاب والأفكار التقليدية بعد فشلها في التغيير والتطور مع ثورة المعلومات، ولذلك فان الاتجاه لليمين هو مجرد خطوة ريثما يستقر العالم على نظريات جديدة تعبر عن العالم الجديد.
الجريدة الرسمية