رئيس التحرير
عصام كامل

علي حزين يكتب: المسحراتي (قصة قصيرة) (1 - 2)


أطفال قريتنا يحبونه.. ولا ينامون حتى يأتي إليهم.. ويرونه، ويسمعوا صوته.. ويجرون خلفه ليتبعوه بفوانيسهم الصغيرة الجميلة، الملونة غالية الثمن، فما أن يسمعوا صوته قادمًا من بعيد.. حتى ينطلقوا نحوه كالفراشات الملونة التي رأت النور وهم منفلتون.. يلتفون حوله في فرح وسعادة.. مبتهجين.. بصياحهم.. والضحك الجميل، مع الضجيج الذي يوقظ النائمين.. قبل أن يوقظهم هذا القادم من بعيد.. وبراءة الأطفال تملأ شارعنا الضيق الطويل الذي يشبه إحدى ممرات الدفن الفرعوني في القديم.. أو قطار السكة الحديد المتجه من القاهرة إلى أسوان.

ــ عم عيد جاء.. عم عيد جاء..
الساعة الثانية بعد منتصف الليل ــ لا بأس ــ فلم يزل هناك متسع من الوقت.. أنظر من النافذة.. أرى الأطفال يملأون الشارع.. بعضهم يحمل الفوانيس، والبعض الآخر يتشاجر أمام أحد البيوت، وقليل منهم يعبث مع زينة رمضان التي غطت كل ركن في الشارع تقريبًا.. الورق المقصوص الملون بأشكال الطيف، والفوانيس الكهربائية المعلقة، والمصنوعة من الخشب، وأعواد الجريد، والشرطان الكهربائية المضاءة.. تقلب الليل إلى نهار صاخب..
ها هو عم عيد يقترب صوته قليلا من بيتنا.. وأنا أنظر إليه من بعيد.. وأنتظره حتى يأتي إلى بيتنا.. وحبل الذكريات يشدني إلى أيام الطفولة التي ولت بلا رجعة وتركت بدواخلنا شيئًا جميلًا.. آه على الزمن الجميل.. وليت الزمان يعود.. 

تذكرت تلك السنون الخوالي التي مرت وانقضت من عمري.. وعادت لذاكرتي تلك الأيام الجميلة، وانبعثت من جديد بداخلي كل الذكريات.. فرأيتني أجري مع الأطفال الصغار في شارعنا، وبيدي الفانوس، حتى أحظى بمكان قريب من عم عيد "أبو عبده" أسير بجواره، وهو يضرب على طبلته الصغيرة التي ورثها من أبيه وهو ينادي على الناس.. يستيقظوا ليتسحروا.. وأنا أحمل في يدي فانوسي العجيب الذي صنعته بنفسي لنفسي.. وهو عبارة عن حق من الصفيح لا أذكر ما الذي كان فيه.. ربما كان حق سمن صناعي.. لا أذكر.. فتحت فيه نافذة صغيرة، وربما كانت ثنتين.. وقد وضعت الشمعة التي صنعت من الشحم.. وقد ربطت الكوز بالدوبارة، وأظل أسير معه، أو بجواره، أتبعه حتى يفرغ من إيقاظ الناس للسحور.. ثم أعود إلى البيت لأتسحر، وأذهب لصلاة الفجر، ثم أعود أدراجي إلى البيت، لأنام حتى الظهيرة.. ولا يوقظني أحد.

الأطفال يقطعون بأصواتهم المرتفعة حبل ذكرياتي المتداعية الممتد نحو الماضي الجميل.. وأنا قد مُلئت سعادة وبهجة كالأطفال تمامًا بتمام..
ــ عم عيد جاء.. عم عيد جاء..
يقترب عم "عيد " من بيتنا، يسبقه صوته القوى، فبرغم كبر سنه إلا أن صوته لم يزل شابًّا.. توارث هذه المهمة عن أبيه.. الكل يعرفه فهو نار على علم.
كان في الماضي "مقضيها" بالطول والعرض.. وذلك قبل أن يموت أبوه، ذلك الرجل الطيب الذي لم يفوت ولا صلاة واحدة إلا وصلاها في الجامع الكبير جامع الشيخ "عبد العال"، بجوار مزلقان المحطة، لا في حر، ولا في قر، صيفا وشتاءً.. صلاته كلها في الجامع، وكان في رمضان.. اجتمع أنا وهو وبعض الصائمين بجوار المحراب بعد صلاة العصر، وبعد أن يفرغ الإمام من الدرس، والصلاة، نجلس نقرأ القرآن، وكنت أحب ذلك الرجل الطيب، الذي يحب رسول الله "صلى الله وعليه وسلم"، ويحب الصلاة على النبي كثيرًا "صلي الله وعليه وسلم".....
أشهد أنه كان رجلًا طيبًا، وكان رجلًا صالحًا، وكان محبًّا للنبي والصلاة عليه، ومحبًّا للقرآن وأهله، وصلاة الفجر في جماعة.. وكان يحب عباد الله جميعًا..
أما ابنه الوحيد هذا كان مهياصًا، لم يركعها قبل ذلك، منفلتًا، يحب اللهو، واللعب، والذهاب إلى الأفراح، ولم يهتم إلا بنفسه، والزفة في الأعراس.. وكنت أراه وهو يرقص مع النساء، وهو يغني، ويتمايل، وهنَّ من حوله يصفقن، ويضحكن له وعليه، وهو يطلب منهنَّ الاشتراك معه في الرقص والتصفيق والغناء والترديد خلفه بحماس.
ــ اطلب من الله ولا يكتر عليه.. يعطيني ميت ألف جنيه.. وخزنه حديد ويكون مفتاحها معي....
وهن يرددنَّ خلفه بقوة..
ــ يكون مفتاحها معي...
الأطفال يتصايحون، وعم "عيد" يضرب بالطبلة، وهو ينادي على الجيران؛ كل واحد باسمه.. ويطلب من الأطفال عدم التشاجر مع بعضهم على المكان الذي بجواره، وإلا لا يصطحبهم معه ثانية.. والأطفال تصيح، وهي تردد خلفه:
ــ اصحَ يا نايم.. وحد الدايم.. وحد الرزاق..
ومع أن أغلب الناس في دربنا الطويل، لا تنام بالليل في رمضان حتى تتسحر، وربما صلوا الفجر حاضر جماعة في الجماع الكبير ومع ذلك تنتظره حتى يأتي.. على الرغم بأن أغلبهم لديه عمل في الصباح، إلا أن الناس لا تنام، وتسهر، وتظل أمام التلفاز، حتى يجيء إليهم عم "عيد" كل ليلة، ليضرب على الطبلة ويسحر الناس.. وهم ينتظرونه أيضًا.. ويأتي عم "عيد" من بعيد.. والأولاد تصيح:
ــ عم عيد جاء.. عم عيد جاء.
Advertisements
الجريدة الرسمية