رئيس التحرير
عصام كامل

حكاية تبكي الحجر


عقب انتهاء أذان ظهر منتصف أحد النهارات الشتوية الباردة، دخل رجل عجوز محني الظهر إلى مقلة لب بشارع جانبي تكاثرت فيه الحفر المملوءة بماء المطر، بمنطقة الطوابق في شارع فيصل، ثم خرج بعد نحو دقيقة ومضى في طريقه، قبل أن يتفاجأ بأحد العاملين بالمقلة يجري نحوه ويرتطم به بكل قوة فأسقطه في حفرة فاضت مياهها على الرصيف المجاور.


كست الدهشة وجه الرجل العجوز، قبل أن يشعر بالألم ينتشر في عظامه، فضلا عن عدة جروح وكدمات تناثرت على جسده النحيل، بينما الناس يحملقون في المشهد في محاولة لفهم ما يحدث.. وما سر إقدام هذا الشاب على ارتكاب ذلك الجرم في حق العجوز!!

فجأة ظهر صاحب المقلة وصاح في العامل: «مش هو ده يا حمار.. الواد اللي سرق كيس الفلوس مشي من الناحية التانية».

اقترب العامل من الرجل العجوز وساعده على النهوض، قائلا: «معلش يا عم الحاج.. تعال أوديك الصيدلية يشوفوا الجروح دي»، وبكل حسرة نظر له الرجل والدموع تنساب من عينيه، ثم قال بصوت مبحوح: «الجروح هتخف بس كسرتي قدام الناس يا ابني مينفعش معاها صيدليات ولا دكاترة».

هل تأثرت بالحكاية؟

مهما كان ردك تعال معي نسمع حكاية أخرى..

في مقاطعة "برونزويك" في بوليفيا، وقف الفنان "سارماجاندو" في إحدى الغرف بمنزله الهادئ ينحت تمثالا من الطين، لكنه لم يكن تمثالا عاديا بل كان عبارة عن جسد رجل بلا رأس، وحين انتهى "سارماجاندو" من عمله، أشعل سيجارة محشوة بالحشيش ووضعها بين إصبعي التمثال ثم صاح فيه «خد اعمل دماغ يا برنس»..

هل أعجبت هذه القصة؟ هل ضحكت؟

أتوقع لو أجرينا استطلاعا بين 100 شخص حول القصتين، سيقول تقريبا 99 شخصا إنهم تأثروا بالقصة الأولى وشعروا بالحزن نيابة عن الرجل العجوز، أما في القصة الثانية، فربما يقول 10 أشخاص إنهم ضحكوا بعد سماعها، وسيقول الباقون (90) شخصا إنهم رأوها نكتة سخيفة لا تستحق حتى الابتسامة.

ومع الأخذ في الاعتبار أن القصتين وقعتا في خيال كاتبهما، ما الذي يجعلنا نتأثر بالقصص الحزينة أكثر من تأثرنا بالقصص الساخرة والمضحكة؟ ما الذي يجعلنا نُجمع على الحزن ونتفرق حول الضحك؟

الأمر ببساطة يتعلق بقاعدة تقول إنه من السهل أن نجعل الناس يبكون لكن من الصعب أن نجعلهم يضحكون بصدق، فأذواق الناس في الضحك مختلفة ومتباينة، بينما أذواقنا في الحزن –تقريبا- واحدة!!

الناس تبكي وتتأثر بالقصص الحزينة حتى وإن كانت غير حقيقية، فنحن مثلا نبكي في المشاهد الحزينة في فيلم أو مسلسل ما، رغم أننا نكون في كامل وعينا بأن ما نراه ليس سوى مشهد تمثيلي.. كما أننا نصدق هؤلاء الذين يروون لنا تاريخهم المأساوي –المزيف– فنمنحهم ما يريدون حتى قبل أن يطلبوه.

وربما فطن البعض لهذا الأمر مبكرا، فاستخدم هذا السلاح من أجل استغلالنا وابتزازنا سواء عاطفيا أو ماديا.. وما أكثر الحكايات الحزينة التي خُدعنا بها، قبل أن نكتشف أننا لم نكن سوى «مغفلين».

والمضحك المبكي في أمرنا، أننا شعب يعشق الضحك لكنه يقدس البكاء، ففي الأمثال الشعبية «يا بخت من بكاني وبكى عليا ولا ضحّكني وضحّك الناس عليا»..

نحن نتأثر بمن يجعلنا نبكي فنفتح له قلوبنا وجيوبنا، ونمنحه حق احتلال مشاعرنا بدون تأشيرة، نفعل ذلك عن طيب خاطر حتى وإن كان الشك ينمو في صدورنا تجاهه، لكننا لا نقدر من يجعلنا نضحك ونراه دائما مجرد مهرج يجب عدم الوثوق به.
الجريدة الرسمية