رئيس التحرير
عصام كامل

عم عادل يعلق صاجاته.. كواليس «الرقصة الأخيرة» لأقدم عازف في فرقة التنورة

فيتو

الساعة تدق الثانية عشرة والنصف ظهرا، يفتح عينيه رويدا ليدرك ما يدور حوله من حركة دائبة في الخارج لا تتوقف، كأن طبول الأعراس دُقت في المنزل الصغير بالعقار رقم 202 في مساكن سوزان مبارك بمنطقة الدويقة. اليوم هو الثالث عشر من مارس، الذكرى الستين لميلاد "عادل يوسف" أقدم عازفي الصاجات بفرقة التنورة في وكالة الغوري والتابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة، كذلك اليوم الذي سيسلم فيه الجلباب الأبيض والطاقية والشال إلى وزارة الثقافة، ويخوض المباراة الأخيرة.


مشاعر مختلطة تتزاحم في رأس الستيني، تتدافع مرة واحدة فتصيبه بالارتباك، ترتعش يداه، تدور عيناه في حركات غير منتظمة :"أنا حاسس إنه يوم غريب، كأنه يوم فرحي أنا العريس المتلخم المتوتر طول الوقت، آخر يوم عمل لي على مسرح الغوري بعد 32 سنة عمل دون انقطاع".


تعد الزوجة الجلباب الذي مكث في الركن ذاته بالدولاب عشرات السنين، لحين تأتي الأيام الخاصة بالاحتفال "السبت والاثنين والأربعاء: "كل مرة بيمسكهم فيها علشان يلبسهم يكون فرحان فرحة طفل صغير ماسك لبس العيد، نفس النظرة ونفس الابتسامة"، هكذا تؤكد الزوجة رفيقة رحلة عم عادل.

كأنه لم يودعهم بعد، كأن أول عهده بهم، انتقل عم عادل في لمح البصر إلى عام ١٩٨٧ العام الذي قام فيه بتكوين فرقة التنورة إحدى الفنون التراثية المصرية، بعد أن كان الأمر قاصرا على بعض المسيرات الصوفية والأعراس الشعبية في المناطق المجاورة لمحل سكنه السابق بحي الجمالية.

بذاكرة حديدية ولسان يفيض بعبارات الغزل والحب لمهنة تشربها وأصبحت كما يصفها "بالحب الذي يسير في شرايينه كمجرى الدم"، يطوف عم عادل وأهل بيته بين أروقة المنزل الذي يحمل كل ركن فيه فصلا من سيرة عشق امتدت لأكثر من خمسين عاما.



الحفل الذي سيحضره نحو ١٠٠٠ شخص من محبي ومتابعي عم عادل يوسف سيبدأ في تمام السابعة مساء، ما زال إذن لديه الوقت الكافي لاسترجاع المزيد من فصول الحكاية، حكاية أب زرع في قلب أبنائه حبا لا يفنى وإخلاصا للـ "طورة"، تلك القطع النحاسية ذات القطع المطاطية المسماة مجازا "الصاجات"، وكادت أن تصبح الابن الثالث والأخير الأكبر لأولاده بعد إخلاص ويوسف.


كان عمره عشر سنوات أو أكثر بقليل، أحضر غطاءين معدنيين لزجاجات "الكازوزة"، ربطهما بإحكام حول أصابعه، استعاد برأسه الصغير مشاهد وقوف الأب على خشبة المسرح في صحارى سيتي بالهرم، يوم رافقه لاستكشاف هذا العالم الخفي والتسلل إلى دروبه، يقرر أن ينزل إلى الحارة ويجمع حوله الأطفال ليريهم كيف يرقص رقصة التنورة بالطورة كما يفعل الأب يوسف فائق "أمي شافتني وقتها وقالتلي هقول لأبوك، خفت جدا وتوصلت إليها بلاش لكنها صممت، ويومها الساعة الرابعة فجرا حضر والدي وأحضر صاجاته الكبيرة، وجه قالي هات الكازوزة وتعال، شعره كان بيوصل لخصره، وقف في نص الحجرة ومسكها وفضل يتمايل ويصدر صوت الآهات من فمه وأنا مركز معاه" هذه المشاهد حُفرت في رأسه، خاصة أن والده أخبره أنه سيطلق شعره ليكبر، أنا أكتر واحد في أخواتي الثمانية شبه والدي، غرني تخيل إني هطول شعره زيه وهمسك الطورة وخلاص هرقص زيه في الحفلات"، ليمر عام واحد وحين أتم ١١ عاما أصبح رسميا عضوا في فرقة والده يقف خلف الكواليس يراقب في صمت الوجه السابح في ملكوته الخاص، السقف المفتوح على السماوات السبع والآهات التي تصدر بين الحين والآخر، وفي لحظات التجلي "فضلت صورة والدي تحضر معايا في كل حفلة هو مات وهو عمره ٤٢ سنة، حملت أنا وإخوتي الراية من بعده، لكن فضلت أنا الأقرب أخوكم حيث الشبه وطريقة الرقص، بعد ما مات وأنا كبرت كنت يادوب أطلع على المسرح أبص للجمهور وأغمض عيني أشوفه قدامي، بنفس النظرة الحريصة على إني مغلطش في أي حركة أثناء الحفل".


لكل راقص تنورة في الفرقة المكونة من عشرة أفراد ويترأسها عادل، شخصية ما تتلبسه حينما يصعد على المسرح، وينظر حوله ليجد الآلاف مشدوهين بما يقدم، بالنسبة لعادل كان الأب هو تلك الشخصية التي تتلبسه في لحظة إغماضته الأولى، كأنه لم يمت نهاية سبعينيات القرن الماضي "أبويا كان من رواد الطريقة الرفاعية الصوفية، ده كان ليعطي له شخصية فريدة على المسرح، أخذتها منه، كل ما أبويا في المراية أشوفه مش أشوف نفسي، أنا من غيره لا شيء"، سيرة الأب لا تنقطع ولا يخلو حديث منها، حضرت بقوة في هذا اليوم على وجه التحديد، يشعر عادل كأنه معه يرافقه منذ أن فتح عينيه وتهيأ لاستقبال حفل اعتزاله العمل وتفرغه لإنشاء فرقة خاصة به، وكذا حفل عيد ميلاده الستين "أول سنة من ستين سنة حد يعمل لي عيد ميلاد ولادي وتلاميذي قرروا يفرحوني في اليوم ده ويحتفلوا بيه بعد الحفل، لكن وسط كل الزحمة دي أنا حاسس روحه في كل مكان واقف جنبي وأنا بختم مسيرتي زي ماهو تمنى وحلم".


جرس الباب لا يلبس أن يسكن قليلا حتى يعلم الجميع بقدوم ضيف جديد، بين الشقيقة الوسطى وأولادها وأحفاد الأخ الأكبر عبارات تهنئة تنهال على عريس اليوم دون انقطاع، بينما هو يجلس في الركن ذاته على كنبة "الأنتريه" محتضنا بيديه البقية الباقية من آثار الأب الراحل، "شوية صور وهو بيرقص في حفلاته هنا في مصر وحفلات اليابان وغيرها من الدول"، يضع إحدى الصور على رأسه وتنسكب من عينيه دمعتان، قائلا "هما دول اللي باقيين منه، دي صورته مع الراحل محمد عبد الوهاب وفرقته"، يتابع متباهيا. يركن عادل الصور جانبا ليروي حكاية أخرى من حكاياته مع الطورة والعمة والجلباب.


منذ نحو ثلاث سنوات كان يستعد لحضور حفل في إحدى محافظات الجمهورية خارج القاهرة، وفي طريقه إلى الفندق وقع حادث سيارة أدى إلى حدوث كسر في ساقه، مما اضطر لعمل جبيرة ووضعها في الجبس الأبيض، منعه الأطباء من حضور الحفلات نهائيا، راوده حبه للطورة لبس الشراب الأبيض ليغطي الجبس تماما، قفز حتى وصل إلى المسرح وأحيا الحفل وسط تلاميذه، "أنا مفيش حاجة تفرقني عن الطورة والجلابية، حتى في وفاة أمي هي ماتت الثلاثاء وأنا كان عندي حفل الأربعاء وحضرته، قلت لهم الجمهور مالوش ذنب"، تكمل الزوجة أم يوسف ورفيقة مشواره منذ عشرات السنوات، ابنة الجيران وبطلة قصة حبه الوحيدة، قائلة: "كان بيحب بعد كل حفلة ييجي البيت هنا ويتفرج على نفسه ويشوف كان بيأدي إزاي وينتقد نفسه لو حس إنه قصر شوية".


الساعة تقترب من الخامسة، الجميع مهيأ للتوجه إلى وكالة الغوري، عادل في عالمه الخاص ينظر مليا بنظرة مودع إلى الجلباب والشال الأبيض، "خلاص مش هشوفكوا تاني يا غاليين!"، صورة جماعية تحوي شطرا كبيرا من أفراد العائلة.

بابتسامة عريضة ووجه متفائل إلى حد بعيد، سار عم عادل في طريقه إلى وكالة الغوري ليستعد لحفل السابعة مساء، الجميع يناديه بالفنان، يهيم هو بين الحين والآخر بينما يعبر الممر الملاصق لنفق الحسين "أنا بقالي ٣٣ سنة بمشي نفس الطريق وأسلم على نفس الناس، صعب عليا جدا يكون ده آخر يوم أعدي من هنا"، كان العشرات بل المئات في انتظار الرقصة الأخيرة، خلاصة ثلاثين عاما من عمل لا ينقطع أفرزها هذا الحفل، والده وأصدقاؤه كانوا دائما في مخيلته لن يغيبوا، كان عادل يغمض عينيه بين الحين والآخر يحدثهم كما يقول دائما يتذكر معهم كيف تفتح العين المغلقة على "السما السبعة" في أقل من الثانية.
الجريدة الرسمية