رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

إبداع في الأسر.. «فيتو» تحاور اللاجئ الكردي صاحب رواية «لا صديق سوى الجبال»

فيتو

«داخل السجن لا تملك سوى الوقت، ينقضي اليوم تلو الآخر دون أن تشعر، يتسرب الوقت من بين يديك ولا تدرك الفرق بين صباح يوم الأحد أو صباح يوم الخميس، الكل سيان، نهارا ينقضي ليأتي من بعده ظلام دامس ليكون إشعارا لحلول ليل طويل تقضيه في النظر إلى الجبال أو مياه المحيط الهندي».. هكذا بدأ الصحفي واللاجئ الكردي بهروز بوجاني حواره مع "فيتو"، والذي أجريناه معه عبر تطبيق "واتس آب" الذي استخدمه هو نفسه في تسريب روايته "لا صديق سوى الجبال"، والتي كتبها في مقر احتجازه داخل إحدى الجزر النائية في أستراليا.




أكثر من رواية
تمكن "بوجاني" من كتابة روايته على مدى خمس سنوات عمد إلى إرسالها عبر "الواتس آب" إلى أحد أصدقائه في أستراليا، فيما عمل على ترجمته من الفارسية إلى الإنجليزية الأكاديمي الأسترالي “omid tofighian”، والذي حاورته "فيتو" أيضًا لتوثيق رحلة الرواية من "واتس آب" إلى معرض أستراليا للكتاب.

قبل ست سنوات كان «بهروز بوجاني» صاحب الأصول الكردية والمنتمي إلى مدينة عيلام الواقعة بالقرب من الحدود العراقية، يعيش حياة يشوبها الخوف من المصير المنتظر على أيدي السلطات الإيرانية بصفته صحفيا وكاتبا معارضا.

لا يمكن التعرض إلى الرواية في منحى بعيد عن معاناة الأكراد داخل إيران، إذ يشهد التاريخ على صراع "كردي / إيراني" منذ عام 1946 عندما أعلن زعيم الحزب الكردستاني في إيران، قاضي محمد، ولادة جمهورية مهاباد الشعبية الديمقراطية، لكنها سرعان ما انهارت بعد إعلان تأسيسها بنحو 11 شهرًا.

ينتمي «بهروز» إلى أكراد إيران الذي يشكلون نحو 10% من إجمالي سكان إيران، أي بواقع 10 ملايين من إجمالي عدد سكان إيران البالغ 80 مليونا، حسب إحصائيات غير رسمية، ويتمركز معظم الأكراد في محافظتي كردستان وكرمنشاه، لكنهم ينتشرون أيضا في محافظتي آذربيجان الغربية وعيلام أيضا التي تمثل مسقط رأس الكاتب الصحفي "بهروز بوجاني"، حيث تربى وعاش طفولته وشبابه.

يسترجع بوجاني المصاعب التي كانت تواجهه قبل إجباره على ترك وطنه: "كنت أعيش داخل إيران حياة مليئة بالكر والفر، نسيت المعنى الحقيقي للاستقرار، كنت مقيدا طوال الوقت، مهددا بالسلاح والاحتجاز، عندما أسير في أحد الشوارع أتلفت خلفي دوما خوفا من ملاحقتي من أحد أعوان الحرس الثوري الإيراني".

ضيق النظام الإيراني الخناق على «بوجاني» لسببين أولهما أنه كردي الأصل وثانيهما تصديه للدفاع عن حق الأكراد في الاستقلال فكان ضمن مجموعات كردية تعمل على فضح النظام الإيراني ومواجهته بانتهاكاته في حق الأكراد، يقول يهروز: "لتلك المعارضة ثمنا دفعته من حريتي وأمني وسلامتي، عندما تم اعتقالي في عام 2011 على أيدي القوات الإيرانية ومكوثي داخل المعتقل لأشهر عدة وتعرضي لشتى أنواع التعذيب، ولكن بعد فترة تم الإفراج عني مع تهديد واضح حال عودتي لممارسة أنشطة معادية للدولة الإيرانية وتوجهاتها".

الهروب الكبير
روح الصحفي المشاكس المتمرد لم تهدأ داخل "بوجاني"، وراح يكون مجموعة سرية مع رفقائه مؤسسا مجلة «ويريا» المؤيدة للأكراد لنشر انتهاكات الدولة الإيرانية، والتي مثلت القشة التي قصمت ظهر البعير.

"أخبرني أحد رفاقي الذي خرج مؤخرا من الاعتقال أنني أحد المطلوبين حاليا، ووصل الأمر إلى مداهمة القوات الإيرانية مقر مجلتي في عام 2013، فبات على لزاما أن أخرج من بلادي مرغما، باحثا عن متنفسا لي"، يحدثنا "بهروز" عن معاناته قبيل اتخاذ قرار اللجوء إلى أستراليا.

لم يكن أمام الصحفي الشاب سوى التوجه إلى أستراليا – أرض الأحلام والحرية – أو هكذا ظن، ولكونه أحد المطلوبين أمنيا فلم يكن السفر بشكل رسمي أحد الحلول المطروحة، وقتها اختار قوارب الهجرة غير الشرعية كأمل أخير في الحصول على حق اللجوء السياسي الذي كفله له القانون الدولي.

الطريق إلى أستراليا عبر المحيط
رحلة هجرة "بوجاني" كانت مليئة بالمخاطر: "في مساء أحد الأيام من عام 2013 كنت عزمت على الهجرة إلى أستراليا، تخفيت تحت ستار الظلام واستقللت قاربا يحمل عشرات المهاجرين وانطلقت من إحدى النقاط البحرية الحدودية في إيران، كان الخوف من المستقبل وما يحمله لي كبيرًا، لكن الخوف من الحاضر الذي أعيشه داخل وطني أكبر من أي أقدار يحملها لي المستقبل، ظننت أن المجازفة لأيام في عرض البحر سوف تنتهي لا محالة، لم أعلم أن الأمر سيستمر لخمس سنوات معلقا بين الموت والحياة".



لم يضع «بهروز» في اعتباره أنه سيهرب من الاعتقال في موطنه إلى احتجاز في جزيرة نائية في دولة بابوا غينيا الجديدة، عندما تم إلقاء القبض عليه واحتجازه من قبل السلطات البحرية الأسترالية، ووضعه في مخيم طالبي اللجوء في جزيرة كريسماس والتي نقل بعد فترة وجيزة منها إلى جزيرة «مانوس»، والتي قبع فيها حتى كتابة هذه السطور نحو 5 سنوات.

الاحتجاز في جزيرة نائية
تقع جزيرة مانوس في المحيط الهادي على بعد ثلاثة آلاف وخمسمائة كيلومتر من شمال سيدني، وهي واحدة من أبعد الأماكن في قارة آسيا، ويسكنها طالبي اللجوء إلى أستراليا لحين التحقق من طلباتهم ودوافعها والتي غالبا ما يتم ردها إلى بلدانهم الأصلية، وهي واحدة من أفقر المناطق في بابوا غينيا الجديدة، الدولة المصنفة ضمن الدول الأقل تنمية في العالم.



حيرة وترقب كبير عاشهما الصحفي الكردي في مقر احتجازه: «نمكث في الجزيرة منذ ما يقرب من خمس سنوات، لسنا محتجزين وكذلك لسنا أحرارا، نعيش حياة غير آدمية بالمرة، نحن بشر ونستحق أن نعيش في حرية لا في معسكر السجن، فإننا لم نرتكب أي جريمة، ولكننا لا نطلب اللجوء إلا في أستراليا، وبدلًا من أن تحمينا بموجب القوانين الدولية، نفينا منها إلى هذه الجزيرة النائية، وتحولنا إلى رهائن».

يقول بهروز: «أن تعيش لأكثر من خمس سنوات داخل الجزيرة كافٍ لتدمير أي شخص، إنه تعذيب حقيقي، فأنا أرى أن التعذيب في فهمي ليس فقط اشخاصًا يضربونك بشكل غير آدمي، بل يعني تعذيبًا نفسيًا، هذا لا يمنع أن بعض الحراس هنا قاموا بضرب العديد من الأشخاص جسديًا أيضًا، كما أنه توفى 12 شخصًا بسبب الإهمال الطبي والعنف المبالغ فيه».

وفقًا لمركز قانون حقوق الإنسان، والذي يتخذ من ملبورن مقرًا له، فإن جزيرة «مانوس» لها تاريخ طويل من التعذيب والعنف بحق اللاجئين، خاصة أن هناك أكثر من ألفي شخص من بينهم 169 طفلًا يقبعون منذ عام 2014 في مخيمات الاحتجاز في مانوس وناورو، والتي تواجه ظروف المعيشة بها إدانات من الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان.

محكمة غينيا تجرم حجز اللاجئين

كانت محكمة بابوا غينيا الجديدة العليا قضت بأن مركز احتجاز «مانوس» غير دستوري، ومع ذلك رفض أكثر من 600 لاجئ بالمركز الانتقال لمكان آخر، وتحصنوا داخل المركز خوفًا من لجوء السكان المحليين للعنف ضدهم.

وقالت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين في بيان: "رغم قطع المياه والكهرباء في 31 أكتوبر الماضي، قال معظم اللاجئين للمفوضية إنهم يعتزمون البقاء بسبب الخوف على أمنهم إذا تم إجبارهم على الخروج".

البداية من جديد
لم يعرف الاستسلام طريقا إلى قلب «بوجاني»، سرعان ما وجد لنفسه دورا في فضح الانتهاكات الواقعة في جزيرة ماسون، مدونا عبر هاتفه المحمول يوميات الاحتجاز في جزيرة نائية.

ولما كان صحفيا عاشقا لمهنة البحث عن المتاعب ومحبا للأدب والتدوين، شرع منذ يومه الأول في كتابة رواية تجسد معاناته داخل مخيم الاحتجاز هو ومن معه من اللاجئين، ولكونه يتعرض بشكل شبه يومي لمضايقات رجال الأمن على الجزيرة، فلم يكن يستخدم الأوراق للكتابة بل عمد إلى إرسال رسائل إلى أحد أصدقائه عبر «الواتس آب»: «لقدم تم التحفظ على هاتفي أكثر من مرة وفي إحدى المرات تم سرقته، كنت أخبئه في طيات ملابسي أثناء النوم خوفا من سرقته»، يقول بهروز.



«كتبت روايتي كلها في هاتفي وأرسلتها شيئا فشيئا، لقد عملت على الرواية لما يقرب من خمس سنوات، وكتبتها لأنني في البداية روائي ومتأكدا إذا لم أكن في مانوس لكنت كتبت رواية أخرى، أما السبب الثاني هو أنني كتبت من دافع الواجب الإلزامي كصحفي أن أكتب عن معسكر السجن هذا وأرسل معلومات أو وثائق تفضح ما يحدث على الجزيرة النائية».

من الظلمة يخرج النور
العزلة التي عاش في ظلالها ما يقرب من 4 سنوات متواصلة منذ عام 2013 لم تسرق منه روح الصحفي والكاتب، بل زاد من إسهاماته الفنية حيث قدم فيلما حمل اسم «جوكا، من فضلك أخبرنا كم الوقت»، الذي أرسله إلى أحد أصدقائه في هولندا يدعى «آراش كمالي»، ووصل الفيلم إلى المهرجانات السينمائية الدولية كإنجلترا (مهرجان لندن للأفلام) وألمانيا والسويد وسكوتلاند ونيوزيلاند وأستراليا.

السجن سواء في جزيرة أو بين جدران وخلف الأسوار ما زال سجنا، حاجز للحريات والحقوق يقول «بهروز»: «لا أعرف كيف أشرح لك، الناس على جزيرة مانوس وجزر ناورو تضرروا بالفعل جسديا وعقليا، لدينا الكثير من الناس هنا مفصولين عن عائلاتهم لأكثر من خمس سنوات، لدينا أطفال ولدوا في معسكر السجن وعاشوا طوال حياتهم في الاحتجاز، أعتقد أنه من الواضح أنه إذا أبقيت الأبرياء في احتجاز غير محدود ماذا سيحدث لهم، أكثر من مأساة وأصعب ما يمكن تخيله».

التكنولوجيا لها يد
استخدم بهروز تطبيق "واتس آب" على الهاتف لإرسال مقاطع كتابه "لا صديق سوى الجبال"، وبعد فترة تعرف إلى "أوميد توفغاني"، والذي طلب منه مساعدته في ترجمتها من اللغة الفارسية إلى اللغة الإنجليزية ثم ترتيبها في فصول.

انتقلنا في الحديث إلى صديقه الأسترالي الذي عمد إلى ترجمة الرواية من الفارسية إلى الإنجليزية، وهو أستاذ مساعد في الفلسفة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وأستاذ مشارك فخري في قسم الفلسفة بجامعة سيدني، ومؤلف كتاب "الأسطورة والفلسفة" في الحوارات الأفلاطونية.

يقول "توفغاني" عن طبيعة العلاقة التي جمعته و"بوجاني": "لقد كنت أعمل مع اللاجئين والمهاجرين بطرق مختلفة منذ عام 2000، ولدي خبرة في أستراليا وإيران والإمارات العربية المتحدة وبلجيكا وهولندا، لقد تابعت القضية على مانوس وناورو لفترة طويلة ودعمت الأشخاص المسجونين هناك، لكن بداية معرفتي بـ"بهروز" كانت في بداية عام 2016، عندما شاهدت أحد مقالاته على فيس بوك وقرأتها، واتصلت به لأقول له إنني أحترم عمله، بدأت علاقة الصداقة بيننا تتطور ثم طلب مني مساعدته في أن أترجم كتابه".



يتابع "توفغاني" حديثه: "كنت أرغب في مساعدة بهروز لأنني أؤمن برؤيته ومنهجه، لدينا تفاهم متبادل وعملنا معا بشكل جيد، شعرت أن هذا الشيء سيبقى وثيقة تاريخية مهمة، كنت أعلم أن هذا المشروع مهم، وربما أهم شيء سأفعله على الإطلاق، لقد كانت تجربة فلسفية خاصة".

أما عن المخاوف التي من الممكن أن يتلقاها لمساعدته "بهروز" في فضح تعامل السلطات الأسترالية مع طالبي اللجوء يقول: "لم أفكر أبدا في تلك المخاوف، الخوف هنا كان على بهروز ليس على، لقد اضطر إلى إخفاء هاتفه عن الحراس، أخذوا اثنين من هواتفه وتم سرقة واحد، لكن في نهاية عام 2016 قضت المحكمة بأنه من المسموح له الحصول على هاتف".

سألنا عن ما حققه الكتاب في الأوساط الأدبية، أجاب: "حتى الآن الكتاب حقق نجاحا ملموسا، بعد ثلاثة أسابيع، ويعد الإصدار رقم 1 في أستراليا على Amazon، وحضر حفل الافتتاح في جامعة نيو ساوث ويلز يوم 2 أغسطس نحو 300 شخص، ووصل صدى الأمر إلى كتابة العديد من المقالات المهمة التي تم نشرها من قبل المؤسسات الإعلامية العليا في أستراليا، كانت تلك لحظة عظيمة وأنت تلمس بأطراف أصابعك النجاح".

الغاية من الكتاب ليس أن يكون عملا أدبيا بل كان أكثر من ذلك، فهو صوت من على بعد آلاف الكيلومترات، اليوم نسمعه داخل سيدني: "لم نعتقد أن الكتاب سيغير الوضع السياسي، كنا نريد فقط أن ننتج شيئًا للتاريخ ونصنع عملًا فنيًا، الأدب لديه القدرة على تحويل الثقافة والمجتمع ونحن نشهد هذا الآن، من المدهش أن العديد من الناس لم يكونوا على علم بما يحدث، الآن هم يعرفون أي نوع من التعذيب المنهجي يحدث في مخيمات طالبي اللجوء إلى أستراليا، الرسالة واضحة للجميع، دائما هناك إناس يتم انتهاك حريتهم وتعذيبهم وتدميرهم نفسيا وأنا سعيد أنني ساهمت ولو بالقليل لأن أكون واحدا من الذين سيذكرهم التاريخ أنهم ساهموا في إيصال صوت أحدهم"... 
Advertisements
الجريدة الرسمية