رئيس التحرير
عصام كامل

طفولة عراب الجيل.. السعادة في سندوتش سجق (صور)

فيتو

داخل مدرسة الإصلاح الابتدائية بمدينة طنطا، في سبعينيات القرن الماضي، كان هناك طفل في الصف الثالث الابتدائي، ذو ملامح هادئة، للوهلة الأولى تدرك أنه انطوائي وهادئ، يتحرك ببطء داخل فناء المدرسة، يشيح بنظره عن أقرانه، يصل إلى أقصى رقعة بفناء المدرسة، يلقي بجسده على السور، يغني بصوت عال: «Strangers In the Night – غرباء في الليل» للفنان العالمي فرانك سيناترا، هذا الطفل يكبر فيما بعد ليصبح الدكتور أحمد خالد توفيق الأديب والروائي صاحب سلسلة ما وراء الطبيعة.


                                        

يلفت انتباه أحدهم، يدعى «أبهج» زميل له في الفصل، لا يختلف عنه كثيرا يشترك معه في كونه طفلا منبوذا وهادئا وانطوائيا ولا يجد صديقا يشاركه اهتماماته ويصلح لأن يكون خليله، يتحرك بخطوات متثاقلة، يتلعثم، لا يجد كلمات تصلح افتتاحية لحوار معه، يبدأ في دندنة ذات الأغنية، ينظر إليه ويبتسم، وينسجمان في الغناء معا "غرباء في الليل، شخصان وحيدان، كنا غرباء في الليل، حتى تلك اللحظة، حين نطقنا أول مرحبًالنا، لم نكن نعرف إلا القليل".

              

طفل انطوائي وجد ضالته في القراءة
واليوم تحل ذكرى الأربعين على وفاة الدكتور أحمد خالد توفيق – العراب – واحد ممن أسهموا في تشكيل وعي أجيال متعاقبة من الأطفال الذين شبوا على كتاباته ورواياته، نحتفي اليوم محاولين أن نمنح الرجل جزءا مما يستحق بعد أن غيبه الموت عن عالمنا.

                

"بداية تعرفنا كانت في مدرسة الإصلاح الابتدائية بمدينة طنطا، كنا أطفالا منبوذين، هو كان وحيدا صامتا، وأنا كنت غير متفاعل مع الأطفال، كنا نشعر بالغربة بين أقراننا"، يروي لنا "أبهج أديب" صديق الطفولة لدكتور أحمد خالد توفيق.

كانت تلك اللحظة بداية تعارف استمر نحو 45 عاما، التصق فيها الصديقان معا، كانا متواجدين دائما في حياة بعضهما البعض، لم يفترقا لفترات متباعدة، وبالرغم من زحمة الحياة إلا أن صداقتهما استطاعت أن تصمد في وجهها.

             

"كنا نقرأ سويا، اهتماماتنا واحدة، كنا نذهب ونعود من المدرسة سويا، نتبادل القصص والكتابات التي تناسب أعمارنا، كنا حينها نقرأ مجلات المختار – ترجمات لبعض المقالات الصادرة من مجلة ريدرز دايجست توقفت في نهاية الثمانينات – حينئذ بدأنا نخلق عالمنا بعيدا عن صخب الدراسة، كنا نقف بعد انتهاء اليوم المدرسي بالساعات نتحدث بالرغم من أعمارنا الصغيرة عن كل شيء يخص الحياة الثقافية"، يصمت ويشخص بنظره في السماء ويرمقني بنظرة حزينة: "كان أحمد مثقفا وعلى درجة كبيرة من الوعي، استحق كل ما حصل عليه من حب وشعبية بين الشباب".

من أين جاء كل هذا؟
يستجمع قوته ويبدأ في سرد مرحلة التكوين في سيرة ذاتية لأحد أهم وأكبر الكتاب، والذي وجد الشباب فيه الأب الروحي لهم، يناقشونه في أفكارهم ويطرحون رؤاهم عليه، يختلفون معه ولا يختلفون عليه.

عودة إلى أبهج: "ظهرت مجلة تان تان رفيعة المستوى بحق، عيشتنا في عوالم أخرى لم نحلم يوما أن نخوض فيها، المجلة كانت في منتهى الدقة يمكنك أن تأخذ منها أية معلومة وأنت مطمئن، بعد ذلك بفترة دخلنا في المرحلة الإعدادية وبدأت اهتماماتنا تكبر معنا".

بضحكة صافية يتذكر "أبهج" أول زيارة إلى منزل أحمد خالد توفيق، والتي كشفت له من أين جاء شغف العراب بالكتابة والقصص وعالم المثقفين: "ليلة عيد لا أذكر إن كان الفطر أم الأضحى ذهبت له في منزله أحمل له كارت معايدة، وقتها كان نائما على كنبة الصالون وأسرته تشاهد التليفزيون، استيقظ من النوم مذهولا، اكتشفت مكتبة والده المرعبة، مرعبة بمعنى الكلمة، كان عنده كل أنواع الكتب والمجلات، بدءا من الجرائد وانتهاء بقاموس لغة الإسبرانتو".



السينما.. عوالم أخرى
"كنت طيلة حياتي أعشق السينما وأراها الشكل النهائي الأسمى للفنون.. ربما كتبت ورسمت لأنني لا أملك كاميرا سينمائية" أحمد خالد توفيق.

يروي صديق الطفولة كيف بدأ اهتمام "العراب" بالسينما، إذ كانت تخلق له عوالم أخرى غير التي كان يعيشها فكان يهرب من واقعه إلى خيالات السينما: "بدأ حبه للسينما عندما كان يذهب مع والده إلى سينما جندولا في شارع حسن رضوان، بشكل دوري، كانت السينما بمثابة مكافأة أسبوعية له، كان عاشقا لأفلام داركولا للممثل كريستوفر لي، أما نجمته المفضلة التي لطالما عشقها وتعلق بكافة أعمالها فهي الممثلة "ميا فارو".

              

"كل فيلم يشاهده يعود إلينا يحكي عنه وعن أحداثه، كان حكاء منذ نعومة أظافره، أراد أن يخلق عالما مماثلا للسينما من خلال الرسم، فكان يرسم بريشته رسومات تعبيرية يصاحبها زجل طفولي، كانت روحه متعلقة بالفنون بكافة أشكالها، أراد أن يخلق عوالم موازية تحمل توقيعه.. وقد كان".

بعد مرحلة الطفولة المنغمسة في عالم الفنون، كان لمراهقتنا نفس المسيرة، مع التقدم العلمي الذي لحق تلك المرحلة وظهور كاميرات التصوير في منتصف التسعينات، انغمسنا في الاهتمام بالتصوير والماكياج السينمائي، فكنا نلهو ونقضي أوقاتنا في منزله أو منزلي نتعلم التصوير وكنا نقرأ الأغاني ونسجلها، كنا شغوفين بالحياة أمام الكاميرا".

"خالد كان بيحب جدا يسجل قصصا مكتوبة سابقا بصوته في صورة مسلسل إذاعى - كان يغير صوته حتى يعطى الإيحاء بعدة أصوات مختلفة– كنا نضحك ونلهو ونسعد بأيامنا التي ذهبت بلا عودة".

                 

عبقرية الدكتور أحمد خالد توفيق، كان الجزء الأهم فيها يتمثل في بساطته، لم يخلق عالما من المنافقين من حوله، أراد فقط أن يمارس شغفه بالكتابة وخلق العوالم الأخرى: "كان قمة السعادة والرضا لدى العراب تتمثل في فيلم جيد، وسيجارة، وسندوتشات سجق من مطعم عواد، رغم مرور السنوات وشهرته الواسعة إلا أنه تمكن من أن يحتفظ بداخله بقلب الطفل الذي أحب القراءة وعالم الخيال".
الجريدة الرسمية