رئيس التحرير
عصام كامل

فنجان قهوة وطبق كشري


ضغوط العمل لا تنتهي، دائما هناك سلسلة من المواعيد وعشرات الأشياء الضروري ترتيبها في عقلي وفي حقيبتي، ولا مانع من أن يسقط بعضها سهوا من ذاكرتي، ولتداركها قصة أخرى من التعديلات، كم نتعجل ونحن شباب سن المعاش من كثرة الالتزامات، ولعل أكبر دليل على ثقلها هو حين تكون مريضا ولا تذهب للطبيب، رغم أن أجر الطبيب وثمن الدواء على حساب التأمينات، ولكن الوقت مثلك كإنسان يسابقك، وعليك إما أن تفوز أو تلحق به فليس مسموحا لك في فرنسا بأن تتأخر.


وسط كل هذه الأفكار المتدافعة في رأسي، لمحت ابنة الجيران عائدة من المدرسة، كبرت تلك الرضيعة وأصبحت في الخامسة من عمرها، وخلفها أمها التي صنعت لي "عقدة وشنيطة" من كلامي بصوت عالٍ في المحمول من الشرفة المطلة على البحر، فطبيعتنا نحن المصريين يعلو صوتنا أثناء الحديث، وربما ننفعل إما فرحا أو غضبا أو بدون مبرر، فتخرج رأسها من شرفتها معنفة أن البنت نائمة توقفوا عن الإزعاج.

اتخذت منها موقفا صارما حازما لسنوات بلا صباح الخير ولا "دياوله"، يكفي أنني مضطرة لفتح البلكونة المواجهة للجبل في عز الشتاء؛ لأتحدث في محمولي بسبب ابنتها النائمة دائما وفي كل وقت، متجاهلة أسئلة في رأسي عن ملامح وجه الطفلة، إما أن الأم كانت متزوجة من رجل آسيوي أو أن الفتاة متبناة، ولو افترضنا أن الفتاة متبناة فحرصها على راحتها له عندي دلالات كثيرة.

ذات يوم صادفت صديقة مغربية على باب البيت، واكتشفت أنها زميلة جارتي في العمل، كانت المفاجأة الأولى أن جارتي ليست عنصرية رغم شخصيتها القوية التي تجمد الكلمات على لساني، والمفاجأة الثانية أنها تراني كما أراها شخصية متحفظة ومتعالية، يا إلهي، هل من المعقول أن يراني شخص بهذه الصفات؟، ضربت الصديقة المغربية كفا بكف، وقالت "على فكرة هي إنسانة طيبة ومهذبة، وأنتِ كمان، مش عارفة إزاى أنتوا مش أصحاب"، من الطبيعي أنني أعدت تقييمي لجارتي في هذا اليوم.

في اليوم التالي تبادلنا تحية الصباح لأول مرة، بعدها توالت الأحاديث بيننا حتى تغيرت فكرتي عنها تماما، أثبتت لي أن الانطباع الأول لا يدوم، وأن بعض المواقف تظهر صورة معاكسة لحقيقة الإنسان، فنخسر صداقات ونكسب عداوات؛ بسوء التفسيرات، وعلمت منها أنها أمضت عشر سنوات تحاول أن تنجب ولم تنجح، حتى تبنت هذه الطفلة بعد موت عائلتها في تايلاند، كم أنتِ محظوظة يا بنيتي أن وجدتي من يهتم لأمركِ ويرعاكِ!، ومازالت جارتي الطيبة الإنسانة تلح عليَّ منذ عامين، أن تستضيفني على فنجان قهوة وأنا أعدها بطبق كشري مصري، ولم يحدث، تبا لضيق الوقت في هذا البلد.
الجريدة الرسمية