رئيس التحرير
عصام كامل

الساعات الرمادية بين الثورة والمظلومية

18 حجم الخط

ساعات الثورة في حياة الشعوب المضطهدة غالبا ما تكون واضحة ومشرقة وبيضاء، بل ناصعة البياض، لأنها غالبا ما تكون قد غسلت بالدماء والدموع، دماء الشهداء ودموع الأمهات والآباء، على ذويهم الذين قتلوا ظلما وعدوانا، بعد أن أهدرت كرامتهم، وتم تضييع فرصتهم في الحياة الكريمة، التي كانوا يستحقونها واستحقها غيرهم بالرشوة والمحاباة والمحسوبية. كما أن ساعات المظلومية في حياة الشعوب المقهورة غالبا ما تكون مبهمة ومظلمة وسوداء، بل شديدة السواد، لأنها تكون قد عجنت بالدماء والدموع، دماء الضحايا ودموع الأمهات والآباء، على ذويهم الذين يقتلون يوميا في سبيل الحصول على لقمة عيش كريمة، أو وظيفة مناسبة، أو فرصة في الحياة، في معركة طويلة، لا تملك إلا أن تقول في نهايتها: لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادى.


ومثال اللون الأسود لأيام المظلومية؛ زمان ما قبل الثورة وكل ما كنا نراه من مجاميع الكذبة والمنافقين، والمصلحجية والطبالين والزمارين، وأصحاب المصالح وطلاب المنافع وأرباب الحاكم الظالم، وأركان الحزب الحاكم وأعضاء لجنة السياسات، وحراس النظام الديكتاتوري، ومن لم يتمكن من التعرف على صور هؤلاء السابق ذكرهم، يمكنه أن يعرفهم بسهولة، وبطريقة جيدة من أحوالهم، فهم لا يعرفون بل يجهلون تماما شكل الطابور الطويل أمام مخابز الفقراء للحصول على الرغيف المدعوم، وهم لا يعانون أو يتعبون في شراء أنبوبة البوتاجاز، أو محاولة الحصول عليها.

وهم لا يعلمون أن هناك أسواقا واسعة وضخمة للملابس المستعملة من كل الأنواع، مثال تلك التي تقع في وكالة البلح وعلى كورنيش النيل غير بعيدة عن ماسبيرو، وهم لا يصدقون أبدا ولا يتخيلون البتة أن هناك من الفقراء من يشترى العظم بالكيلو، وأحيانا بنصف الكيلو فقط لعمل نوع خفيف من أنواع الشوربة، وأحيانا وليس دائما لزوم تغيير وجبة الفول المقرر اليومي في طعام الفقراء.

ومثال اللون الأبيض لأيام الثورة؛ زمن ثورة يناير العظيمة، وكل ما كنا نراه في ميدان التحرير، من مجاميع المقهورين والمحرومين والمظلومين، والفقراء من الطلبة المحتاجين، والذين لا حاجة لهم ممن هم عالة على آبائهم. والموظفين أو المفترض أنهم كذلك لأن رواتبهم لا تكفيهم غير يومين في الشهر. والعاطلين الذين لا عمل لهم منذ بداية حياتهم، والذين أصبحوا عاطلين لأنه سبق لهم أن فقدوا أعمالهم وتم تعطيلهم بعد تسريحهم من الشركات والمصانع التي تم بيعها في عهد المخلوع.

والباعة الجائلون والذين يبيعون أي شيء، ما له قيمة وما لا قيمة له، وأولاد الشوارع الذين ولدوا في الشوارع، والذين هاجروا أو هجروا إليها بعد سقوط منازلهم بسبب وبغير سبب. والمتسولين الذين يتسولون من الفئات السابق ذكرها.

وكل هؤلاء تستطيع التعرف إليهم بسهولة جدا، لأنك تعرف صورهم جيدا وتحفظ أشكالهم تماما، لأنك لا تقابل غيرهم في رحلاتك الطويلة في شوارع مصر الواسعة، وعلى محطاتها الكثيرة، وفوق أرصفتها الضيقة، وداخل أزقتها القذرة، وفي قلب وسائل مواصلاتها البطيئة، والسريعة أو المفترض أنها كذلك، وبين الحشائش القليلة، لحدائقها النادرة والمتناثرة، والتي نسي المسئولون إزالتها بزبالتها، في خضم مشاغلهم الكثيرة في محو معالم القاهرة الجميلة بتحويل العديد من مواقعها إلى مقالب زبالة، وشوارعها حالتها حالة!.

مشكلة المشاكل تقع في الساعات الرمادية؛ ما بين ساعات الثورة البيضاء المشرقة، وساعات المظلومية السوداء المظلمة، حين يرتدى المنافقون والكذبة ملابس الثوار... ويرفع المصلحجية والطبالون والزمارون أصواتهم للمناداة بالعيش والحرية. ويصبح أرباب الحاكم الظالم وأصحاب المنافع وطلاب المصالح حاملي لواء العدالة الاجتماعية. ويتحمل أركان الحزب الحاكم وأعضاء لجنة السياسات المسئولية في الدفاع عن الفقراء، وتنفيذ خطط التنمية. ويتحول حراس النظام إلى شرطة نجدة، وإسعاف للوطن والدولة.

وفي نفس الوقت يظل المحرومين والمظلومين والمقهورين الفقراء؛ من الطلبة والموظفين والعاطلين والباعة الجائلين وأولاد الشوارع والمتسولين، والى حين إشعار آخر كما كانوا دائما يعيشون في أسفل قاع المجتمع، محافظين على عاداتهم المقدسة إلى الأبد، فهم من أشد المدمنين على رغيف الخبز المدعوم، ويقاتلون من أجل الحصول عليه بدمائهم، وهم من أكثر الباحثين عن أنبوبة البوتاجاز، ولا يوجد لديهم بديل عنها، وهم من السائحين الزائرين الدائمين لأسواق الملابس المستعملة، والتي لن يتخلوا عنها أبدا فهي مغرمة بهم وهم مغرمون بها، وانظر كيف كان يبشرهم بوصولها الأستاذ خيرى رمضان في فضائية السي بي سي، بقوله: الملابس المستعملة وصلت يا رجالة، وهم من عاشقي شوربة العظام إلى حين ميسرة، وهم فيما بين الحين والأخر يحلمون بالثورة، وميدان التحرير، كما يحلمون بالعيش، والحرية، والعدالة الاجتماعية، وأحيانا الكرامة الإنسانية.


هل عرفتم الآن الفارق الكبير ما بين الساعات الرمادية وما بين الساعات البيضاء للثورة والساعات السوداء للمظلومية..
وبعد ذلك أليس من حقي أن أقول: فلتسقط كل الألوان الرمادية.. اللهم تقبل.. اللهم أمين.. يا رب العالمين. 

الجريدة الرسمية