رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

سد النهضة وفرض الأمر الواقع!

أعرف أن اللغة السياسية والمعارك الدبلوماسية قد تتحفظ في مفرداتها، وتلمح دون أن تصرح، لكن الوضع مختلف في الصحافة، والسؤال الذى يعرفه الجميع ويلتف عليه وحول إجابته المعروفة للجميع ولا يريد أحد إسقاط ورقة التوت عنه حتى الآن لتظهر الحقيقة مجرد: هل سد النهضة للتنمية حقا أم لقتل مصر ولإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في المنطقة؟!


وتتتابع الأسئلة: هل صدفة أن يعلن آبى أحمد رئيس وزراء إثيوبيا أمس وفى يوم عرفة الانتهاء من المرحلة الثانية لملء سد النهضة، لفرض أمر واقع جديد في طريق بدأ أولى خطواته، وهو تعطيش الشعبين المصرى والسودانى تمهيدا للقضاء عليهما؟

وهل صدفة أن يقتحم العشرات من المستوطنين اليهود المتطرفين المسجد الأقصى مرتين أمس في يوم عرفة أيضا، ثم يهاجم جيش الاحتلال الاسرائيلى العرب الفلسطينيين  لمنعهم من دخول المسجد الأقصى عشية عيد الأضحى لفرض أمر واقع  جديد لتهجير العرب من االقدس لتهويدها للأبد؟

هل صدفة أن يمتد الحدثان مع ذكرى إعدام الرئيس العراقى صدام حسين فجر عيد الأضحى منذ سنوات لخلق واقع جديد بدون صدام حسين في المنطقة، وبدون العراق القوى"أحد أضلاع مثلث القوة العربية" التي لم يبق منها إلا مصر بعد تدمير سوريا وقبلها العراق، ولم تتحول العراق بعد الإحتلال الأمريكى وإعدام صدام حسين إلى جنة الله وواحة الديمقراطية في الأرض كما وعد الامريكان؟!

ولان العراق والقدس ودمشق وصنعاء وطرابلس وبيروت.. الخ جروح تنزف.. سأركز الكلام عن الجرح الجديد الذى يخطط ويدبر له لكى يكون قاتلا وليس نازفا.. أقصد سد النهضة.. من خلال واقع جديد يتم تخليقه منذ الخمسينات وماقبلها حتى ولد فى 2011 أثناء انشغالنا في ثورة يناير، ويعلن الآن عن الملئ الثانى له، والهدف أن تكون المنطقة بدون مصر او أن تكون روحها في يد أديس أبابا ومن ورائها من قوة تعادى مصر طبعا وتحاول ازالتها من الوجود، وهم يعرفون أن النيل هو روحها وسر وجودها .

السيناريو محبوك بدقة وكل حل وإتجاه فيه عبارةعن فخ كبير منصوب بعناية:
السيناريو الأول: إستنفاذ مصر في مفاوضات أمتدت لعشر سنوات وتمتد إلى ما لانهاية تحت رعاية الإتحاد الأفريقى الذى لا يملك أى مصادر نفوذ وتأثير قوية.. وبعدها يكون سد النهضة أمرا واقعا تستطيع به إثيوبيا فرض السيطرة والسيادة على نهر النيل في دولتى المصب مصر والسودان، والمقصود بالسيطرة والسيادة أن تملى أديس أبابا شروطها سواء ببيع المياه أو تقليل حصص المياه أو منعها من الأساس لعدم اعترافها بالاتفاقيات الدولية السابقة في تحديد حصص المياه للبلدين رغم  تضاعف السكان في البلدين عشرات المرات، وقد يصل الامر الى رفض البيع بأى ثمن!

السيناريو الثانى: هو جر مصر والسودان إلى القيام  بعمل عسكرى بضرب السد بعد تعرض شعبيهما للخطر، والمقصود طبعا مصر التي لم تسقط واستطاعت ان تقاوم مخططات السقوط في المنطقة حتى الآن، وبدأت تلتقط الأنفاس في عمليات تنموية تغضب أعداءها.. وبدأت الإشارات من هنا وهناك لدعم هذا التحرك العسكرى وكانت مقولة ترامب الشهيرة قبل أن يغادر البيت الأبيض بقليل وملمحا فيها بموافقته على ضرب سد النهضة في موقف يذكرنا بما فعلته السفيرة الامريكية في بغداد حين ألمحت بموافقة واشنطن على إحتلال صدام حسين للكويت، والباقى نعرفه حين وقع في الفخ!

كش ملك
وصانع القرار السياسى في مصر كلاعب الشطرنج لا يريد لأحد أن يقول له كش ملك، لان الشعب المصرى إستطاع عبر الاف السنوات أن يبقى ويذهب غيره أو يضمحلوا وقال للجميع وإن طال الزمن: كش ملك!

المشكلة ليست صراعا على مكسب زائل أو قطعة ارض صنع حدودها مستعمر بخطوط وهمية، لكن صراع على الوجود، فاذا كانت اثيوبيا تسعى كما تزعم للتنمية، فإنها تدرك أن الأمر ليس تنمية ولا يحزنون، لكنها  تنفذ المخطط بدقة  للقضاء على مصر التي لم تسقط حتى الآن أو تركيعها على الأقل في المرحلة الأولى.

ويدعم ذلك العقلية الحبشية ويتجلى ذلك حين ننظر إلى جذور الحقد الاثيوبى تجاه مصر، فهى وبعض البلاد الأخرى تقارن نفسها بمصر بمناسبة وبدون مناسبة، هي ترى بنظرة حاقدة إنها الأحق بأى تقدم وحضارة في مصر لأن النيل يجرى من عندها ولا تنظر بنظرة موضوعية بحته إذا سلمنا بوجهة نظرها -وهى خاطئة- وماذا فعلت هي بنحو الف مليار متر مكعب سنويا إذا كانت مصر قد فعلت بنحو 5% من هذه المياه حضارتها وتقدمها عبر الاف السنين؟!

أعتقد أن الصراع متجذر عند أهل الحبشة فى البحث عن زعامة ودور دون أن تملك مقوماته، مصر مثلا  تحت إحتلال أى قوى استعماريه على مر التاريخ، تقدمت أو ساهمت في التحضر، ولم تتقدم إثيوبيا حتى وإن كانت حرة!

والمسألة ليست صراعا سياسيا فحسب يمكن أن تختلف عليه الآراء، لكنه صراعا ثقافيا وحضاريا يمتلك طرف أسبابه ومقوماته والآخر محروم منها، لذلك يستمر الصراع .

ففي الوقت الذى تستوعب مصر الحضارات والثقافات الأخرى وتصهرها في بوتقتها على مر العصور ليكون نتاج ذلك حضارة مصرية متتابعة الحلقات، عفية وقوية ومتجددة لتعدد منابعها وجذورها ويكون العكس هناك .

لن أعيد التاريخ ولكن إستمر في البحث عن الدلالات حين أسترجع محاولة الحبشيين وملكهم هدم الكعبة في الحادث الشهير الذى عرف بعام الفيل الذى ولد فيه الرسول عليه الصلاة والسلام ونزل بشأنه سورة الفيل، وكان أيضا بحثا عن دور سياسي، إذ لم يرض ملكهم أن يكون هناك نفوذا للعرب او لقبيلة او مكانا أو رمزا روحيا  يلتف حوله اهل الجزيرة وهو الكعبه فاراد هدمها ظنا منهم ان يتجه الجميع الى  قبلتهم الوهمية في الحبشة. يعنى الهدف حاليا ومنذ القدم هو البحث عن زعامة دون امتلاك مقوماتها!!

الوثائق البريطانية
وتأتى الوثائق البريطانية التي نشرتها BBC لتكشف رفض لندن لخطة إثيوبية قبل ستة عقود لتشكيل جبهة من دول المنبع ضد مصر والسودان. تذكر الوثائق: في 24 نوفمبر عام 1961 حاولت إثيوبيا بقيادة الامبراطور هيلا سيلاسي إقناع بريطانيا بالانضمام لجبهة من دول المنبع بشأن مياه النيل في مواجهة دول المصب (مصر والسودان) لتبني سياسة مشتركة بشأن مياه النيل، بعد بناء السد العالى.

ففي عام 1959، إتفقت مصر والسودان على تقسيم المياه التي تصل إلى البلدين عبر النيل الأزرق وهو مصدر حوالي 80 في المئة من مياه النيل، وتبلغ 84 مليار متر مكعب.

وحسب الاتفاق، الذي أيدته بريطانيا لكنها لم تكن طرفا فيه، إتفقت القاهرة والخرطوم على اقتسام المياه التي تصلهم بحيث تكون حصة مصر 55.5 مليار متر مكعب سنويا، ويكون نصيب السودان هو 18.5 مليار متر مكعب، أما الـ 10 مليارات الباقية فتضيع في البحر.

وهو أمر يخص دول المصب ولا يضر أحد  لكن أديس أبابا حاولت تقليب دول المنابع بالاتفاق فيما بينها ضد دولتى المصب .غير أن لندن رفضت المسعى حرصا على العلاقات مع مصر وخشية الإضرار بمساعي التوصل إلى أرضية مشتركة في التعامل مع النيل.

وأكدت لندن في الوثائق "من غير المرجح أن تُحل مشكلة مياه النيل حتى تقبل دول الحوض (الإحدى عشرة) خطة فنية تقوم على افتراض أن النيل وحدة هيدروليكية (مائية) واحدة". ورفضت لندن العرض الإثيوبي، الذي وصف بأنه "يدعو للأسف وإن كان غير مفاجىء بتشكيل جبهة" في مواجهة مصر والسودان لأنه "سوف يعقد الأمور".

قلب الحقائق
يعنى سياسة قلب الحقائق قديمة ولم تظهر فجأة، لكن الجديد هذه الأيام دعم دول أصحاب المصالح والاغراض.. وللأسف فكرة فرض الأمر الواقع وإن إستغلت بعض الظروف لكنها لا تنفع مع الشعوب ولا تصلح للاستمرار.. ومثل هذه الملفات المهمة لاينفع استغلالها في صراعات انتخابية مؤقتة.

وإذا كانت الظروف الطبيعية من الفيضانات المبكرة جعلت إثيوبيا تتوقف في الملئ الثانى فجأة عند حوالى 3 مليارات متر بدلا من 11 مليار كانت تعلن عنها للإستفزاز وجر شكل القاهرة والخرطوم، فأن النار مازالت مشتعلة مادامت إثيوبيا لم توقع على إتفاق قانونى ملزم بشأن ملئ وتشغيل السد بالإضافة لحصص مصر والسودان التاريخية، وإن كنت أشك في الالتزام بها حتى لو وقعتها لإن هناك أهدافا أخرى لابد من تحقيقها!

وتبقى الأسئلة: إلى أين تقودنا إثيوبيا في السيناريوهات المحتملة؟
هل سيترك مجلس الأمن الأمر للإتحاد الافريقى الذى يتخذ من إثيوبيا مقرا له وهو لاحول له ولا قوة، وهو سيناريو جديد لإضاعة الوقت، أم ستجبرنا وتقودنا إثيوبيا إلى سيناريوهات أخرى لمواجهة الموت عطشا، أو وقف السيناريو الاثيوبى في  تنفيذ المخطط الحقيقى لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في المنطقة من خلال سد النهضة!
yousrielsaid@yahoo.com
Advertisements
الجريدة الرسمية