رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

الحقوووونا


واقعة تعذيب وقتل طفلة الدقهلية "جنة"، ذات السنوات الخمس، على يد جدتها لأمِّها، ليستْ حالة طارئة أو استثنائية، ولكنها تكررتْ وسوف تتكررُ في قادم الأيام، ففى اليوم التالى مباشرة لدفن "جنة"، في موكب جنائزى مهيب، أغرقتْ أمٌ صغيرتَها ابنة الأربعين يومًا؛ بسبب خلافاتٍ زوجيةٍ، ويبقى القوسُ مفتوحًا!


المجتمعُ المصرىُّ شهد في السنوات الأخيرة تطورًا غريبًا ومؤلمًا في نوعية "الجرائم الأسرية"، يعكس "تغييبًا" تامًا للدين، و"غيابًا" كاملًا للإنسانية. انسحبَ الدينُ تدريجيًا من ضمائر وقلوب المصريين، فحلَّتْ "الوحشية" بديلًا عن "الإنسانية".

المصرىُّ لم يعدْ مُتدينًا بالفطرة. تلكَ أسطورة، وربِّ الكعبة، من الأساطير التي نخدع بها ذواتنا المُتضخمة. الجريمة تتوغلُ في نفوس المصريين بصورة مُفزعة. صفحاتُ الحوادث اليومية تتفوق في تفاصيلها الإجرامية على خيال أغزر المؤلفين والكُتَّاب خيالًا. لا يخلو يومٌ دونَ الكشفِ عن جريمة قتل مُروِّعة أو علاقة آثمة داخل الأسرة الواحدة.

حاجزُ الخوف من السماء يتلاشى. دور الدين يتراجعُ. الظاهرة تتفاقمُ ولا أحدَ يهتمُّ، أو يُلقى بالًا. الوعاظُ والكُتَّابُ والمُثقفون والإعلاميون والمُشرِّعون مهمومون بأمور شتَّى، ليس من بينها بناءُ البشر وتربيتهم وتهذيبُ سلوكياتهم. المجتمعاتُ المتقدمة هي المجتمعاتُ الأكثرُ إنسانيةً، والمجتمعاتُ العارية من الإنسانية عبءٌ ثقيلٌ على الحياة. ورحمَ اللهُ القائلَ: "إنما الأممُ الأخلاق ما بقيتْ.. فإنْ هم ذهبتْ أخلاقهمُ ذهبوا"!

أساتذة علم النفس والاجتماع يقفون عاجزين أمام هذه الوتيرة المتسارعة من الانحرافات الأسرية. الأمورُ فاقتْ نظرياتهم المُعلبة سابقة التجهيز، وتجاوزتْ نظرياتهم القديمة، واتَّسعَ الخرقُ على الراتق. الهجماتُ المتتالية على المناهج الدينية في المدارس والجامعات والبرامج الدينية في الإذاعة والتليفزيون والمطالبة بمنعها أتتْ مرادها الخبيث، وحققتْ هدفها السقيمَ، حتى غدتْ الفضيلة رذيلة، والرذيلة الفضيلة، والمعروفُ مُنكرًا، والمنكرُ معروفًا.

الفقرُ والغنى بريئان مما أصابَ المنظومة الأخلاقية للأسرة المصرية من عطبٍ وخللٍ؛ فإذا كان بعضُ الفقراء يقتلون الأبناءَ خشيةَ إملاق، فإنَّ بعضَ الأثرياء يتبادلون الزوجات، ولا ينشغلون بتربية أبنائهم، ولكلِّ فريقٍ قاموسُه الإجرامىُّ الخاص. لا وقتَ لجلد الذات، أو دفن الرءوس في الرمال، أو الادعاء بأن ما يحدثُ في مصر من جرائمَ أسرية، لا يستدعى الفزعَ أو الخوفَ.

الصمتُ في مثل هذه الحالة يرتقى إلى درجة "الجُبن"، والمناورة "نفاقٌ"، والهروبُ "خسَّة ونذالة". جميعُنا مدعوون لإنقاذ مجتمع يحيدُ عن الصراط المستقيم، وينحرفُ عن الطريق القويم. أعيدوا إلى "خطبة الجمعة" و"عظة الأحد" تأثيرهما الضائع، ووقارَهما الغائبَ. علِّموا الناسَ الأخلاقَ، واغرسوا فيهم قيمَ الرحمة والرفق والإنسانية، ادعوهم إلى البر، وانهوهم عن الإثم.

وسائل الإعلام، باختلاف أطيافها وتوجهاتها ومذاهبها، مدعوَّة الآنَ، أكثرَ من أي وقتٍ مضى، إلى ترتيب أولوياتها، وأن تضعَ في الصدارة منها، إعادة الوعى الدينى للمصريين، والانحياز إلى كل ما هو أخلاقى وتربوى، ومخاصمة كل ما هو هابطٌ ومُتدنٍ ورخيصٌ ومبتذلٌ.

الإعلامُ الدينىُّ يجبُ عليه أن ينشغلَ برسالته الأساسيَّة وأهدافه الساميَّة، وأنْ يتخلى عما سواها مما لا ينفعُ الناسَ ولا يمكثُ في الأرض. المُثقفون والمُفكرون ينبغى عليهم أن ينزلوا من أبراجهم العاجية، وأن يغادروا ذواتهم المُتورِّمة، وأن يتخلوَا عن الإبحار ضدَّ التيار، وأن يقولوا للناس حُسنًا، وألا يجعلوا من أنفسهم جسرًا للسلوكيات المنحرفة، ودُعاة للعادات الشيطانية، ومُدافعين عن الانحرافات والبدع الوافدة.

وعلى المُشرِّع.. أن يكونَ أكثرَ عقلانيةً عندما يتصدى لتعديل قانون الأحوال الشخصية، فيُغلِّبُ المصلحة العامة على ما سواها، وأن يُعيدَ النظرَ في ترتيب الحضانة حالَ انفصال الأبوين؛ فلا تكونُ الجدة للأم هي التالية في الحضانة للأم، هذا شططٌ وجنونٌ، دفعَ ضحيته الطفلة "جنة"، ومثلها كثيرون، بسبب قانون غاشم وظالم، يغازلُ النساءَ، ولا ينتصرُ لصغار لا حولَ ولا قوة.

في مصر 9 ملايين طفل مُعرَّضون لمصائر مؤلمة، لا تقلُّ بشاعة عن مصير "جنَّة"؛ بسبب قانون الأحوال الشخصية "الحالى"، وتآكل منظومة أخلاق المصريين التي لا تجدُ من يسهرُ على ترميمها..
Advertisements
الجريدة الرسمية