رئيس التحرير
عصام كامل

شهادة أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء على الإسلام


رغمَ أنَّ المُفكرَ الوجوديَّ الدكتور "زكي نجيب محمود"، الذي عاش بين عامى 1905-1993، دعا في بداية حياته العلمية، إلى "إلغاء التراث العربي ورفضه رفضًا تامًا"، وإلى "سيادة العقل على النقل" وإلى "تغيير سُلمِ القيم العربية"؛ ليكونَ على غرار النمط الأوروبي، إلا أنه سرعان ما انقلبَ على جميع تلك الأفكار؛ ليدعو في مرحلة لاحقة إلى "فلسفة جديدة برؤية عربية"، تبدأ من الجذور، ولا تكتفي بها، بل نادي بـ"تجديد الفكر العربي"، وتوصل إلى أن "الإسلام هو أكثرُ الديانات السماوية دعوة إلى العلم والعقل والتعقل."


مرَّتْ الحياة الفكرية للدكتور "زكى نجيب محمود" المعروف بـ "أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء" بثلاثة أطوار، حيث انشغلَ في المرحلة الأولى، أثناءَ سفره إلى أوروبا بـ"نقد الحياة الاجتماعية في مصر، وتقديم نماذج من الفلسفة القديمة والحديثة والآداب التي تعبر عن الجانب التنويري".

وبدأتْ المرحلة الثانية بعد عودته من أوروبا، وامتدَّتْ حتى الستينات من القرن العشرين، وفي هذه الفترة دعا إلى تغيير سُلم القِيم إلى النمط الأوروبي، والأخذ بحضارة الغرب وتمثلها بكل ما فيها باعتبارها حضارة العصر، لاشتمالها على جوانبَ إيجابيةٍ في مجال العلوم التجريبية والرياضية، ولها تقاليدُ في تقدير العلم، وفي الجدية في العمل واحترام إنسانية الإنسان، وهي "قيمٌ مُفتقدة" في العالم العربي.

وفي هذه الفترة دعا إلى الفلسفة الوضعية المنطقية، ونذر نفسَه لشرحها وتبسيطها، وهي فلسفة تدعو إلى "سيادة منطق العقل"، وإلى "رفض التراث العربي وعدم الاعتداد به". وعبرت كتبه ـ التي ألفها في هذه الفترة ـ عن هذا الاتجاه مثل: "الفلسفة الوضعية" و"خرافة الميتافيزيقا".

أمَّا المرحلة الثالثة، فقد شهدتْ عودته إلى التراث العربي قارئًا ومُنقِّبًا عن الأفكار الجديدة فيه، وباحثًا عن سِمات الهوية العربية التي تجمعُ بين الشرق والغرب، وبين الحدس والعقل، وبين الروح والمادة، وبين القِيم والعِلم. في هذه المرحلة، التي تُعتبرُ الأهمَّ والأبرزَ في مسيرته العلمية والفكرية..

رأى صاحبُ كتاب "الفلسفة الوضعية" أنَّ تركَ التراث كله هو "انتحارٌ حضارىٌّ"؛ لأنَّ "التراث به لغتُنا وآدابُنا وقيمُنا وجهودُ علمائنا وأدبائنا وفلاسفتنا"، كما كان يتمنى "ألا نعيشَ عالة على غيرنا"، وإنما نشاركُ في هذا العالم بـ"الأخذ والهضم والتمثيل ثم إعادة إفراز ما أخذناه، مثلما فعل المسلمون حينما أخذوا العلم والفلسفة الإغريقية، وهضموها ثم أفرزوها وزادوا عليها زياداتٍ مُهمة".

كان يرى، رحمه اللهُ، أنَّ السرَّ وراء تخلف العالم الإسلامى المعاصر، أنَّ أبناءه يكتفون بحفظ القرآن الكريم وترديده، دون العمل بما يشيرُ إليه من وجوب العلم بالكون وظواهره. فإذا تنبّه المسلم إلى أنَّ البحثَ العلمىَّ في ظاهر الكون من ظاهرة الضوء إلى الصوت إلى الكهرباء والمغناطيسية والذرة، كل ذلك يشجع عليه ديننا.

وإذا أيقن أنَّ البحثَ فرضٌ دينىٌّ، لكانَ المسلمُ صاحبَ العلم وجبروته، ولكانَ من راكبى الصاروخ وغُزاة الفضاء، وأصحاب المصانع التي تأخذ من البلاد المتخلفة موادَّها الخامَ بأقلِّ ثمن، ثم تردُّها إليها مصنوعاتٍ بأغلى سعر، فيكونَ الثراءُ من نصيبه، والفقرُ من نصيب الآخرين، لكنَّ المسلمَ لم يعقلْ ذلك كله، وظنّ أنَّ العبادة وحدها هي الأمرُ الإلهىُّ، وهذا ما لم يدعُ الإسلامُ الصحيحُ إليه من قريبٍ أو بعيدٍ!!

وأخيرا.. يبقى سؤال مهم هو: هل كان الرجل علمانيًا؟

لقد صنّف بعضُ المعاصرين "زكى نجيب محمود"، ضمن زُمرة العلمانيين، وأنه بناء على هذا التصنيف فرّق بين الدنيا والدين، وبين الأرض والسماء، وبين الدولة والدين، وأن اهتمامه تركز فقط على العالم، وأخرج الدينَ من دائرة الاهتمام أو التأثير في شئون الحياة وتنظيمها.

وعند "زكى نجيب محمود".. كانتْ هذه الدعوة مقبولة في المرحلة الأولى من فكره، ومُتسِقة مع تصوره بمعنى الحضارة والتقدم؛ إذ كان ينادى في هذه المرحلة بأنَّ الشرق لن يتقدمَ إلا إذا تخلصَ من كلِّ القديم، وأنْ يتخلى عن تراثه تمامًا، بل نادي بأنَّ علينا أن نلقىَ به في النار، وأنْ نستمدَّ كلَّ أنظمتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من أوروبا؛ لأنه لا يوجدُ لدى العرب في تاريخهم، السابق أو الحالى، ما يصنعُ هذا التقدمَ المنشودَ، وكانت دعوة العلمانية، بالمعنى الأوروبي، هي التصورُ الملائم لرؤية الفيلسوف الكبير.

ثم حدث التحول في فكر الدكتور "زكي نجيب محمود"، كما أسلفنا، ومنذ ظهور كتابيه: "تجديد الفكر العربي"، و"المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري"، تغيرتْ هذه النغمة، وبعدَ أن كان الغرب، وحدَه، هو مصدر العقل والعلم والتحضر، أخذ الرجلُ في البحث عن ملامح هذا العقل في تراثنا، وانتهى إلى أن" الإسلام هو أكثر الديانات السماوية دعوة إلى العلم والعقل والتعقل".

كان الفيلسوفُ الراحلُ يرى في سيرته الأولى أن النموذج الكامل للحضارة هو النموذجُ الأوروبيُّ، ثم تراجعَ عن هذا في مرحلته الثانية، ورأى أن هذا النموذج للحضارة الغربية هو نموذجٌ يسيرٌ على قدمٍ واحدةٍ، فهى حضارة عرجاءُ غيرُ كاملة؛ لأنها تهتم بالعلم والعالم، وتُنسى الإنسان بما يملك من وجدان وثقافة ودين، ونادي بالجمع بين الدين والعلم معا كطرفين متلازمين لصنع الحضارة.

فإذا استطاع الإنسان العربى المسلم المعاصر أن يجمع بين العلم والدين، وبين العقل والقلب، وبين الجسد والوجدان، وبين المادة والروح، وبين الدنيا والآخرة؛ فقد حقق الحضارة الكاملة، وصار إنسانًا تامًا.
الجريدة الرسمية