رئيس التحرير
عصام كامل

نهب «القارة السمراء» من العبودية والاستعمار إلى سيناريوهات «البزنس والحماية».. «أوروبا» تطوي صفحة «مستعمرات أفريقيا» وتبدأ السرقة بالمشروعات المشتركة.. و«ط

فيتو

«دائمًا أفريقيا الدجاجة التي تبيض ذهبًا».. بمرور السنوات اختلفت محاولات الغرب في السيطرة عليها، فمنذ سنوات كان السلاح والاحتلال السيناريو الوحيد المتاح والممكن تنفيذه في القارة السمراء، غير إنه بمرور السنوات فقد هذا السيناريو صلاحيته، ما دفع قادة وإدارات الدول الغربية للبحث عن سيناريوهات جديدة، تواكب التطورات التي شهدتها الأوضاع في دول أفريقيا، وكان «الإرهاب والحماية» واحدًا من هذه السيناريوهات، غير إنه لم يكن السيناريو المفضل لبعض الإدارات الغربية، التي قررت تعديل إستراتيجية «اختراق أفريقيا»، لتطرق الأبواب المغلقة، التي لا يزال أصحابها يحتفظون بذكريات سيئة عن المستعمر الغربي، وكان «الاستثمار» بمثابة الغطاء الأمثل لمطامع هذه الدول.


جذور الاستعمار
تاريخيًا.. تأسست جذور الاستعمار الأوروبي في القارة الأفريقية منذ قرنين، مع الانتشار الألماني في مناطق توجولاند وساموا بجنوب غرب أفريقيا وغينيا، في حين سيطرت بريطانيا من خلال شركة شرق أفريقيا، على كينيا وأوغندا، وتم تسمية تلك الدول بـ«محمية شرق أفريقيا»، في حين تواجدت فرنسا لفترة طويلة في بنين وبوركينا فاسو وغينيا ومالي والنيجر وأفريقيا الوسطى، وبدورها سيطرت بلجيكا على الكونغو، بينما سطت إيطاليا على أراضي الصومال وإريتريا، وكان الهدف الأول استنزاف ثروات تلك البلاد لخدمة أهدافهم الاقتصادية.

بمرور السنوات.. أعاد المستعمر الفرنسي خلال الوقت الحالي تواجده في أفريقيا، عبر بوابة أفريقيا الوسطى المعروفة بثرواتها الهائلة من الذهب واليورانيوم والنفط والماس، مستغلة الأوضاع الأمنية المتدهورة من أجل السيطرة على مناجم الثروات المعدنية التي تحتاجها لسد حاجتها في قطاعات الكهرباء والطاقة النووية، إضافة إلى تواجدها في منطقة خليج غينيا وجيبوتي وساحل العاج والنيجر.

على جانب آخر حرصت بريطانيا على فرض تواجدها العسكري في دول مثل بروناي وسيراليون وكينيا، بزعم حمايتها من النزاعات والصراعات العرقية، ومواجهة الجماعات الإرهابية، في حين تواصل الضغط على حكومات تلك الدول لاستنزاف مواردها الاقتصادية وحماية نفسها من شلال الهجرة غير الشرعية المتدفق عبر تلك الدول، ومن ناحية أخرى تمثل تلك الدول مستهلكا رئيسيا لمنتجاتها.

روسيا
من جهته، وجد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، المساحة الواسعة للاستثمار، وتثبيت أقدام بلاده داخل القارة السمراء، عن طريق وكيله يفغيني بريجوزين المعروف إعلاميًا بـ«طاهي بوتين»، الذي كان له دور بارز في التحقيقات الأمريكية بشأن التدخل الروسي في الانتخابات عن طريق تمويل الدعاية الخاصة بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

ونجح «بريجوزين» في دعم نفوذ «بوتين» داخل جمهورية أفريقيا الوسطى، التي تتمتع بموقع إستراتيجي وثروات هائلة، بحسب معهد «أتلانتك» للأبحاث السياسية، ضمن الأهداف الجيوسياسية التي خطط لها الرئيس الروسي خلال السنوات الماضية، من أجل فرض السيطرة على أفريقيا، وارتكز دوره على دعم رئيس أفريقيا الوسطى فاوستن آرشينج تواديرا، الذي كافح من أجل السيطرة على بلاده في مواجهة الميليشيات المسلحة، التي فشلت قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في مواجهتها.

وقدم «طاهي بوتين» الدعم لرئيس أفريقيا الوسطى بالمال والتدريب والدعم العسكري، إضافة إلى توجيه رجل المخابرات الروسي فاليري زاخاروف، للعمل تحت خدمته، وتكوين جهاز مخابرات قوي يساعده في مواجهة الميليشيات، ولكن كل ما سبق، لم يكن ليتحقق دون الحصول على مقابل، تمثل في عدم تفويت فرص استغلال ثروات ذلك البلد الغني بالموارد، وستمثل أول قمة (روسية - أفريقية) في سوتشي أكتوبر المقبل، فرصة لتدعيم النشاط والتواجد الروسي في أفريقيا، حسبما صرح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، خاصة في ظل الفراغ الذي خلفته أمريكا في ذلك البلد، بما سمح بزيادة المبيعات العسكرية والتعاون السياسي بين روسيا ودول أفريقيا.

الطاقة النووية
وجاء أكبر مثال على ذلك المشاركة الهائلة في دعم بناء محطة للطاقة النووية في جنوب أفريقيا، وعقد اتفاقات تجارية بمبالغ هائلة بين الطرفين، وترى روسيا أن أفريقيا تمثل قوة كبرى يمكن استغلالها، حيث إنه بحلول عام 2050 سيكون بها 25% من سكان العالم، كما تعد أكبر مورد للمعادن، إضافة إلى أن كلا من روسيا والصين يريان أنها تشكل كتلة تصويتية كبيرة في الأمم المتحدة، تحتاجها كلتا الدولتين لمواجهة أية قرارات أمريكية أو أوروبية تهدد مصالحها، وبالفعل سعت روسيا على مدار السنوات القليلة الماضية لتعزيز وجودها في 13 دولة أفريقية على الأقل، ونجحت في توقيع صفقات عسكرية بالمليارات في 20 دولة.

في المقابل.. لم يخف التوسع الروسي في أفريقيا عن أمريكا، وبالأخص مستشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للأمن القومي، جون بولتون، الذي أكد أن الممارسات الروسية التي وصفها بـ«المفترسة» في أفريقيا تعوق النمو الاقتصادي في أفريقيا، وتهدد الاستقلال المالي للدول الأفريقية، وتشكل خطرًا على الأمن القومي، في ظل الحرب الباردة القائمة بين الدولتين وسعي كل منهما كسب مساحات من الدعم بين دول العالم.

القواعد العسكرية
وأشار معهد «أتلانتك» إلى أن «القواعد العسكرية والتعاون الأمني والسيطرة على الطاقة النووية الناشئة والاستفادة الهائلة من الموارد الطبيعية وتنمية أسواق الصادرات الغذائية والأسلحة، تشكل ركائز الإستراتيجية الروسية في أفريقيا، رغم المخاطر التي تحيط بها، حيث قتل صحفيون روس يحققون في تورط بريجوزين في مجازر عسكرية بجمهورية أفريقيا الوسطى».

وكشف تقرير سابق لهيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي»، عن الحملة الروسية للتأثير على الانتخابات الرئاسية في مدغشقر من خلال العمل مع ستة مرشحين من أصل 35 مرشحا، تلقوا أموالًا روسية لحسم المنافسة لصالحهم، ودعم مرشح واحد في النهاية تريده موسكو، في معركة لم تكلفها كثيرًا، لكنها ستجني من ورائها أضعاف ما أنفقته.

التوترات المتشابكة والمعقدة في المنطقة الأفريقية في هذا التوقيت وبهذا الشكل بها نوع من القصد، هذا ما يؤكده الدكتور أيمن شبانة، أستاذ العلوم السياسية بمعهد الدراسات الأفريقية، متسائلًا: "من المستفيد من كل ما يجري في هذه المنطقة؟"، و"هل تسعى تلك الدول إلى ثورات حقيقية أو تغيير حقيقي من أجل المنطقة؟"، مجيبًا أن الوضع الراهن والطبيعة تقول لا، بدليل أن هذه الدول حتى الآن لم تحصل على الاستقرار.

المستفيد
وحول المستفيد من هذه التوترات شدد «د.شبانة» على أنه «إما دولة من الدول المجاورة قد تكون معلومة أو معروفة أو لها أغراض وأهداف تريد أن تحصل عليها من تلك المناطق سواء بترول، ثروات، هيمنة»، مضيفًا أن «المستعمر القديم يعود إلى هذه المنطقة بقوة من أجل نهب مواردها وكنوزها المدفونة التي كانوا قد تركوها كخزان احتياطي».

وفي الوقت الذي حاولت فيه القوى الاستعمارية أن تبرر وجودها في المناطق الأفريقية من أجل السيطرة على الهجرة من منبعها، يرى «د. شبانة» أن ما جرى هو العكس تمامًا حيث نزح الكثيرون من هذه المناطق بسبب التوترات والظروف الصعبة التي عانوا منها، وأضاف: تعتبر مصر التي تتولى حاليًا رئاسة الاتحاد الأفريقي في قلب هذه الأحداث، هي الهدف الأكبر من وراء ما يجري في المنطقة، مصر كدولة مستهدفة في المقام الأول، نحن نتكلم عن واقع ملموس ومحسوس، كل حدود مصر بلا استثناء فيها توترات، وأنا كدولة مطلوب أن أضع ذلك في الحسبان، والمخاطر التي تحدق بمصر عديدة من بينها سد النهضة، الحدود الليبية والتوترات بها، ومجموعة الإرهابيين الذين يتم تصديرهم إلى ليبيا، وأنا أكاد أجزم أن مصر المستهدف الرئيسي من هذا الموضوع، ولولا وعى القيادة السياسية وإدراكها ما يحدث لكان وضع مصر أسوأ من ذلك بكثير.

إسرائيل
«إسرائيل حدث ولا حرج» بهذا الوصف تحدث الخبير في الشأن الأفريقى، عن دور دولة الاحتلال فيما يجري في منطقة أفريقيا، مؤكدًا أن لها دورا كبيرا، ولكن غير ظاهري، ويتضمن تعاونا تكنولوجيا مخابراتيا وصورا متعددة من الدعم، بدليل أن الإرهابيين في سوريا كانوا يتعالجون في إسرائيل، والصهاينة يسمحون بمرور السلاح عبر الحدود ويقدمون التسهيلات للإرهابيين.

وأوضح أنه «لدينا مشكلة في أفريقيا، يوجد كتلة عربية وكتلة أفريقية غير عربية، الكتلة العربية تتحرك على مستوى عربي وأفريقي، أما الكتلة الأفريقية فتتحرك وفقًا لمصالحها الشخصية فقط، ولا يهمها مصالح الدول العربية، لذا لا بد من وجود مصالح مشتركة بين الكتلتين، بما يضمن مصالح الدول العربية، لا بد أن يكون هناك تعاون اقتصادي سياسي مخابراتي حقيقي، وليس مجرد اجتماعات، ولا بد أن يكون للدول الأفريقية مشاريع داخل الدول العربية، لأن الاقتصاد اليوم يؤثر على القرار السياسي، لأنه حينما تكون هناك مصالح لدولة ما ستفكر ألف مرة قبل اتخاذ القرار، والمصالح الاقتصادية في الوقت الراهن هي التي تتحكم في سياسة دول العالم كله.

الفكر التآمري
على الجانب الآخر هناك من يستبعد مبدأ الفكر التآمري في الملف الأفريقي، ويرى أن كل دولة أفريقية لها ظروفها الخاصة وملابساتها، وهو ما أكده السفير محمد حجازي، بقوله: ربما تكون هناك بعض التدخلات الدولية والإقليمية، لكن كل دولة لها شأن داخلي، على سبيل المثال السودان تتطور فيه الأوضاع بين طرفي معادلة الحكم أو المجلس الانتقالي والمعارضة، ولفهم الوضع فيه لا بد من فهم معادلة الحكم، بعد استمرار نظام ديكتاتوري لمدة 30 عامًا استنفد كل ما لديه، وبقيت رياح التغيير ليتم صياغتها بين شركاء الوطن سواء في المعارضة أو في المجلس الوطني العسكري الانتقالي، وبالتالي لا يجب أن نشير للموضوع من زاوية أن الغرب يحاول أن يعيد مناطق أو بؤر الصراع، إنما الأمر مرتبط بدواخل الملف السوداني، والعلاقة بين أطراف الحكم والتغييرات السودانية.

وأكمل: كل التطورات في المنطقة الأفريقية سواء في السودان، الجزائر، وإثيوبيا، وغيرها من الدول الأفريقية، لكل دولة خصائصها وظروفها وملابساتها، وإلقاء اللوم على الفكر التآمري يجعل الإنسان لا يحلل، ولا يبحث المشكلة بشكل جيد، ويتجاهل الظروف الداخلية لكل دولة على حدة، مثلًا عند الحديث عن أن مصر تتعرض للمؤامرة، فإن أصحاب هذا الفكر سيتجاهلون ظروفها وأوضاعها الداخلية والسياسية والإقليمية، ورغم أن هناك بالفعل بعض الدول التي تريد أن تنال منا مثل قطر وتركيا، لكن الموضوع لا يعتمد بالكامل على المؤامرة، نحن لدينا برنامج إصلاح اقتصادي صعب وقوي، وبالطبع له تبعات اجتماعية لا بد من العمل عليها.

وحول مستقبل أفريقيا أوضح السفير «حجازي» أنها «قارة المستقبل التي تملك ممرات ملاحية، ثروات بترولية ومعدنية وأسواقا، فمثلا لو دولة مثل روسيا أقامت مستشفيات في إثيوبيا سوف تربح الكثير،على عكس تأسيسها مستشفى في ستوكهولم في السويد فلن تربح كثيرًا، لأن السويد ليست في حاجة لمستشفيات، إنما أفريقيا تحتاج إلى ألف مستشفى، كل دولة أفريقية تحتاج لـ 100 طبيب و20 ميناء وثروات معدنية ترفع الإنتاج، لذا الثروة والمستقبل في أفريقيا، أما أوروبا فاستوعبت ثمار التنمية وليس هناك داعٍ للاستثمار سواء في الصحة أو التعليم لأنهم وصلوا لمرحلة القمة، وإنما الذي يحتاج هو أفريقيا، لذلك أي قرش يوضع في أفريقيا تكون أرباحه أضعافا مضاعفة، وبالتالي كل القوى بلا استثناء تلعب وتتزاحم هناك، سواء إقليمية أو دولية مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا والقوى التقليدية مثل اليابان وروسيا الصين والهند ودول مثل مصر ودول الخليج وهذا طبيعي لأن أفريقيا مجال جيد للربح الاقتصادي والتجاري، وتضم العديد من الفرص».

وتابع: في الوقت نفسه لا توجد دولة يمكنها أن تزيح أخرى هناك، مثل ما يتردد بأن روسيا تريد أن تزيح أمريكا من أفريقيا أو العكس، إنما هو تنافس على المصالح بين كل القوى، علمًا بأن الأفارقة ليسوا «مغمضي الأعين» وإنما هم أذكياء ويختارون بين التكنولوجيات المختلفة سواء الفرنسية أو اليابانية أو الصينية أو المصرية ويختارون الأنسب لهم وهكذا، غينيا على سبيل المثال اختارت مصر لتبني لها سد ستيجلر جورج، وبالتالي لا تحتاج اللجوء لأمريكا لتبني لها سدا لأنها اختارت دولة شقيقة لهذه المهمة.

"نقلا عن العدد الورقي..."
الجريدة الرسمية