رئيس التحرير
عصام كامل

من الفرد إلى الجماعة ومن الوزير إلى المفوضية


تطورت البشرية تطورا هائلا في الخمسين سنة الماضية، وحدث تطور تكنولوجي سريع خاصة في مجال البرمجيات وتكنولوجيا المعلومات والتواصل، واكبه حدوث انفجار معرفي هائل في معظم العلوم والمجالات، وانعكس ذلك على أسلوب الإدارة في المؤسسات والبلدان.


وفي الطب على سبيل المثال، اختفى أو يكاد يختفي دور الفرد وحل محله الرأي الجماعي المبني على الدليل، وهذا ما يطلق عليه الطب المبني على الدليل ( Evidence Based Medicine).

أصبح الدليل العلمي المقتبس من الأبحاث العلمية المنضبطة، والتي يقوم بها الباحثون في كل بقاع الأرض، وتقوم بعد ذلك لجان علمية متخصصة بفلترتها وتفنيد مدي قوتها وأصالتها والتزامها بالبعد الأخلاقي ومطابقتها لقواعد البحث العلمي، بوضع نتائجها في شكل استرشادات يتبعها الأطباء في مختلف دول العالم.

تقع الاسترشادات في ثلاثة مستويات من القوة حسب توفر الدليل العلمي. المستوى الأول هو ما ثبت من عدة دراسات منضبطة انتهت إلى أن هذا الحل هو الأفضل. المستوى الثاني يكون الدليل العلمي أقل من الأول، ولكن يكون له أساس علمي وتجريبي ثابت. المستوى الثالث وهو الأقل لعدم وجود أبحاث تؤيده، ويكون الاسترشاد فيه برأي المؤسسات العلمية المشهود لها بالكفاءة والحيادية والخبرة. أما رأي الفرد فلا يتم الالتفات إليه حتى ولو كان خبيرا في التخصص.

انتقلت الممارسة العلمية إلى باقي ميادين الحياة العامة، وأصبح الرأي العلمي هو الأساس، وأصبح على متخذ القرار استشارة الجمعيات العلمية ومراكز الأبحاث لمعرفة نتائج التجارب السابقة، واختفت أو تكاد تختفي الآراء الفردية، واختفت الشخصيات المحورية في الطب والسياسة والاقتصاد، ولذا لم يعد هناك ضرورة أن يكون وزير الصحة طبيبا، أو أن يكون وزير الدفاع عسكريا (وربما يكون امرأة)، ولكن أصبح الرأي الجماعي المبني على الدلائل العلمية والخبرات المتراكمة هو الأساس.

ظهرت مراكز أبحاث تابعة لكل مسئول أو عضو برلمان في شكل لجان فنية، وظهرت كيانات كبرى تخطط للصحة في شكل مجلس أعلى للصحة، وأخرى تخطط للتعليم في شكل مفوضية للتعليم. واكتفي الدور التنفيذي على تنفيذ سياسات تم دراستها والاتفاق على جدواها حسب ظروف كل بلد وإمكانياته وثقافته ومعتقداته.

ومع اعترافنا بخصوصية كل بلد، وقناعتنا بأن ما يناسب المجتمعات الغربية لا يناسبنا بالضرورة، إلا أنه قد حان الوقت الذي يجب أن تتغير فيه طريقة إدارتنا لمؤسساتنا العامة، وخاصة الحيوية منها مثل التعليم والصحة، لتتماشى مع الأسلوب العلمي الذي اصبح أحد متطلبات العصر.

والله ولي التوفيق.
الجريدة الرسمية