رئيس التحرير
عصام كامل

الجاني!


لو تآمر علينا كل أعدائنا، فإنهم لن يفعلوا فينا ما نفعل في أنفسنا.. لست مع سيناريو المؤامرة، وأراه بغيضا ومقيتا، ويستهدف ببساطة نقل الحدث من خانة المسئولية إلى خانة الضحية.. ولا يمكن أن أصدق أن سائقا متهورا مهملا هو الجاني الحقيقي في مأساة محطة مصر. أنا ضمن الجناة وأنت عزيزي القارئ ضمن القائمة وكل مسئول في مصر لا بد وأن يضع نفسه أمام مسئولياته!!

كلامي ليس إهدارا للدماء بين القبائل.. منذ سنوات كان لدينا وزير نقل صريح إلى حد الصدمة.. الدكتور سعد الجيوشي.. قال مع أول حادث في عهده: نحن مرشحون لحادث كل ثانية.. كانت تصريحاته قاسية إلى حد الفجيعة، غير أنه كان رجلا صادقا مع نفسه ومع الناس.. قال الرجل وبكلام مسئول إن الوضع الراهن مرشح لكوارث متتالية يدفع ثمنها بسطاء يلجئون إلى السكة الحديد، فيكون مصيرهم القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد.. نعم نحن قتلناهم وسنقتل غيرهم كثيرين.

تعالوا إلى رئيس الوزراء الذي يعلن وبشكل يومي عن أعلى بناء في أفريقيا، وعن مدن جديدة.. أليس من المنطقى أن نعيد بناء أقدم سكك حديدية في أفريقيا، وثاني السكك في العالم؟ أليس الأجدى والأفضل والأجدر أن نبني أكبر مستشفى في العالم يعالج الغلابة والفقراء الذين يموتون يوميا وبنفس الترصد والعمدية؟ أليس من الأقيم والأفيد أن نبني أكبر جامعة في العالم، وأكبر مدرسة في الدنيا، وأكبر مصنع في الكوكب؟

إذا كنا ابتنينا أكبر شبكة طرق للأجيال القادمة، ألا يحركنا ذلك وبنفس الحماس إلى منطق خدمة الناس بأكبر المشروعات؟ إذا كنا نقود حملة الـ ١٠٠ مليون صحة لإنقاذ الناس من غول فيروس سي، ألا يحركنا ذلك صوب مواجهة وحوش الأمراض الأخرى.. طاعون العصر.. السرطان الذي يحوّل أسرًا كاملة إلى مناطق اليأس والإحباط والموت؟ أليس من المنطقي أن تكون السكة الحديد مشروعا قوميا ينقذ البلاد والعباد من كوارث ربما تتكرر وأنت تقرأ هذه السطور؟

إن الجاني هو كل مسئول لا يعرف مكامن الخطر ويعالجها بدلا من هذا العبث بحياة الناس.. كل مسئول لا يعرف أولويات بلاده، فيهرب إلى صيغة "أفعل".. "أفضل".. "أعلى".."أكبر".."أعظم"، دون أن يدري أن إنقاذ حياة إنسان واحد هو بمثابة إحياء للناس جميعا.. الوزير القادم سيكون ضمن قائمة المتهمين إذا لم يصر على طرح الأولوية على المجتمع الذي يجب أن يساهم وبفاعلية في مواجهة خطر الموت.. لا يمكن تصور أن مجرد حاجة الإنسان إلى الانتقال إلى عمله أو إلى بلده هي مغامرة يحيط بها الموت المحقق.. لا يمكن أن نطالب كل مستخدم للسكة الحديد بأن يودع أهله قبل قراره باستخدام القطار وسيلة.. لا يمكن أن نظن أن يمر الحادث مرور الكرام.. نحاكم سائقا لا نعرف من الذي عينه، وكيف تتم مراقبته، وكيف يمارس عمله، وما آلية اختياره؟ 

نعم كلنا مسئولون وليس السائق ولا الوزير وحدهما.. إنهما مجرد كبشين نضحي بهما من أجل أن ننام دون ألم، أو ضمير يعذبنا!!

الجريدة الرسمية