رئيس التحرير
عصام كامل

حدود الاختلاف!


أنا مع روح النقد وضد غرائز العداوة، مع المواجهة الشجاعة وضد الانتقام الرخيص، مع الكرامة للجميع، لنفسي، ولمن معي، ولغيري، ولمن هو ضدي. حرية الإعلام دون ضوابط أخلاقية، تتحول إلى مصائد وأفخاخ ومكائد، تهدر الهدف المقصود منها وهو إتاحة أكبر قدر من الحقائق، لتخدم أكبر قدر من الناس، وتحقق أكبر قدر من المصالح، وتصد أكبر قدر من الخسائر.


حرية الإعلام ليست التحفيل على الناس وهتك كرامتهم، وليست قذائف تطلق من مدافع، وكم عصفنا بأبرياء وما زلنا، وكم شوهنا من رجال ونساء وما زلنا، وكم لوينا من أعناق الحقائق وما زلنا، وكم خضنا مع الخائضين وما زلنا، وكم اختلقنا من أوهام وأكاذيب وما زلنا، كم لعبنا بالرأي العام -بقسوة وغلظة- وما زلنا. 

كم استغنينا عن الضمير -بدوافع الوطنية- وما زلنا، أرجو أن نتوقف مع أنفسنا، قبل أن نتوقف مع غيرنا، حتى مع تلك. الكائنات المزعجة التي تحشر أنوفها في كل شيء يخصك، في شكلك وعقلك ودينك.. تلك الكائنات التي تبحث فيك باستماتة عن نقاط الاختلاف بينك وبينهم، ليكرهوك بضمير، أو يقتلوك تقربا إلى الله.

كائنات تريد منك نسخة مطابقة لصفاتهم ومواصفاتهم.. لا تحترم الفكر أو الرأي، أو الحياة.. تحافظ على الرجعية، وتصر على استنساخ الآباء والأجداد.. كائنات تنبش في موروث بال عليه الدهر وتغوط، لتعيد له الحياة، وتقتل به كل حي.. وهي كائنات مزعجة تثير الشفقة والغضب لأنك إذا ردَدْتَ على كل مخالِف، وانشغلْتَ بكل حاسد، ودافعت عن نفسك أمام كل من اتَهمك، وخفت من كلِ عدوٍ، وتوجعت من كلِّ سهم؛ وثبطَتكَ كل كلمة؛ فاقعد في بيتك؛ فمثلك لا يصلحُ للتنافس في ساحة الحياة.

ولا يعنينا أن تتحرك الأحجار التي في رءوس بعضهم فتنبض بالفهم وعلينا أن نخاطب الذين يفهمون، أولئك أصحاب القلوب الحية والعقول النابضة، أما الذين يعيدون لنا قول أصحاب القرون الأولى فينطبق عليهم قول الله «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ»، أي أن هؤلاء بحثوا عن أعمال أسلافهم فاتبعوها فكانوا من أهل السلف!..

ويقول كثير من علماء الاجتماع إذا أردت أن تعرف أين يقف أي مجتمع على خريطة المجتمعات المتحضرة ليسأل كل منا نفسه هل يمكننى أن أعبر عن قناعاتي في هذا المجتمع بكل حرية، وسوف تكون الإجابة هي التي تحدد مدي تحضر المجتمع والمؤسسات والأفراد والسلطة.

ولكن الحقيقة هي وجود بنية تحتية في تراثنا صلبة للقمع وتبريره، وللقتل وتسويغه، وللتمثيل بالجثث والاغتيالات خارج العدالة والقانون.. هذه البنية تحتاج إلى تفكيك جريء لا يعبأ إلا بما يرضي الضمير والشرائع والدساتير وحقوق الاتسان غير أن الغطاء الفقهي الذي ما زلنا ننتظم بين تلافيفه بإذعان وتقديس حتى اليوم، هو ذاته لم يكن خاليًا من تبادل الاتهامات البينية بالتكفير والخروج من الملة، بلغت حد "التهديد" أو "التلويح" بإجازة فرض الجزية على المخالف المسلم..

ففي نهاية القرن الخامس الهجري ـ مثلا ـ قال قاضي دمشق محمد بن موسى الحنفي (حنفي/أشعري): "لو كان لي من الأمر شيء لأخذت من الشافعية الجزية".. وروى ابن عساكر أن إمام المالكية في مصر أشهب بن عبد العزيز، كان يدعو على الشافعي في سجوده ويقول: "اللهم أمت الشافعي إنك إن أبقيته أندرس مذهب مالك".. وانتهى الأمر إلى أن انقض المصريون "المالكية" على الشافعي في المسجد وقتلوه!
الجريدة الرسمية