رئيس التحرير
عصام كامل

فتحي غانم يكتب: مطربة البسطاء والفلاحين

فتحى غانم
فتحى غانم

في مجلة صباح الخير عام 1957 كتب الكاتب فتحى غانم مقالا قال فيه: منذ أكثر من ثلاثين عاما كانت مغنية ناشئة تغنى (لى لذة في ذلتى وخضوعى) واليوم تغنى أم كلثوم وقد أصبحت مطربة الشرق الأولى أغنية مختلفة تماما.

إنها تعنى اليوم من كلمات صلاح جاهين (الشعب يزحف زى النور.. الشعب جبال الشعب بحور)، وتغنى أيضا من كلمات بيرم التونسى (صوت السلام هو اللى فاز واللى حكم).

والفرق هائل بين المعنى في الأغنية القديمة والمعنى في الأغنيتين الجديدتين.. وهما آخر ما غنته أم كلثوم.. هو تماما الفارق بين شعب مصر يوم بدأت أم كلثوم حياتها الفنية وبين شعب مصر والشعوب العربية اليوم، ولنقول: كيف بدأت أم كلثوم حياة الفن والغناء وتسلمت مشعل الفن.

بدأت حياتها الفنية وسط الفلاحين تغنى في الموالد لقوم في مثل فقرها بملاليم أو قروش معدودة مقابل لقاء صوتها الجميل، وقد حدثنى عجوز يوما فأقسم أنه أعطى أم كلثوم مليما في إحدى هذه المناسبات.

لم تكن أم كلثوم وقتئذ فلتة ولا معجزة الهية حبا الله بها الشرق.. كانت مجرد صوت جميل مثل عشرات الأصوات في الفلاحين الذين أصابتهم البلهارسيا والأمراض المتفشية بين الفلاحين.

لم تكن أم كلثوم في ذلك الوقت بين 1915 و1918 فترة ظهورها بالريف تغنى كالشهيرات ولا تقلدهن فلم يكن غناء المحترفين للناس البسطاء بل كان مقصورا على طبقة الامراء والاعيان الذين يقيمون الحفلات في بيوتهم وفى صالات الرقص والبارات.

كان محمد عثمان يغنى عشر ساعات متواصلة وكانت منيرة المهدية تثير حواس المستمعين ببحة في صوتها لها طابع جنسى... أما أم كلثوم فقد غنت مع الفلاحين على طبيعتها، غنت بلا قواعد أو تلاعب أو بحة، بل أطلقت صوتها معبرا عما تحس به وكأنها تغنى لنفسها، وإذا بالفلاحين يطربون لسماعها.

هنا يجب أن نسجل لأم كلثوم أنها استحقت التفضيل الذي حباها به الفلاحون على غيرها من الأصوات، وهذا التفضيل راجع لأمر شخصى في أم كلثوم.

أما منيرة المهدية فكانت تمثل الجنس الصارخ في الصوت وفى معانى الأغانى، تستجيب للسهرات الحمراء وما فيها من حشيش وخمر وصيحات عربدة ونكات جارحة. 

بدأ الأغنياء يسمعون عن أم كلثوم.. فلاحة تغنى بصوت ملائكى فاستدعو أم كلثوم لسماعها، استدعى رسمى باشا محافظ دمياط أم كلثوم للغناء واستمع إليها وأعجب بحضورها وصرح الحاضرون أنها أفضل من منيرة المهدية.

ونصحها توفيق بك زاهر من أعيان السنانية بأن مجدها في القاهرة فكان أول من شجعها واكتشف موهبتها، واستطاع إقناعها وضيفها في بيت آل عبد الرازق بشارع الدواوين بالقاهرة هي ووالدها وأخوها.

وكان أول ما غنت في القاهرة قصيدة: مولاى كتبت رحمة الناس عليك.. فضلا وكرم، وما أن سمعها الناس حتى ارتفع صوت أحد السامعين قائلا: كتب الغلب علينا ياختى، فضحك الناس وبكت أم كلثوم.
الجريدة الرسمية