رئيس التحرير
عصام كامل

«ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك»


سبحان الله خالق الخلق مقدر الأقدار سبحانه.. خلق فسوى وقدر فهدى.. سبحانه له في كل شيء حكمة، فلم يخلق شيئًا عبثًا سبحانه، وقد تغيب الحكمة عنا لقصر العقول وأجهزة الإدراك وفي لحظة تأمل وتفكر في مظاهر عوالم الكائنات نصل إلى حقيقة الكون وما وراءه وحكمة الله تعالى فيه ونجدنا نقول: ما أوجد هذا الكون وما فيه من مخلوقات، وما جعل الموت والحياة عبثًا سبحانه وتعالى، إنما لحكمة سامية جليلة، تجلت في قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)..


وفي معنى هذه الآية الكريمة قال عبد الله بن العباس حبر الأمة رضي الله عنه، أي ما خلق الله تعالى الجن والإنس إلا لمعرفته عز وجل، فالمعرفة هي الغاية والعبادات هي الوسيلة التي تؤدي إليها، ومن هنا ندرك أن العبادات في حد ذاتها ليست كما يظن البعض أنها غاية، بل هي الأساس الذي ينطلق منه العبد للوصول إلى الغاية، وهي ما تثمره المعرفة به عز وجل، التي على إثرها يحظى الإنسان بمقامه في حضرة القرب، ومعايشة أنس ربه ومولاه جل علاه..

هذا وللمعرفة بالله تعالى أبواب هي الطاعة والعبادة والذكر والتفكر والتأمل في آياته عز وجل، الظاهرة في كل مظهر من مظاهر الكون، وهذا ما يسمى بالمشاهدات الحسية، التي تدرك بالعيون والأبصار، هذا وإذا ما نظر الإنسان بمنظار الحكمة والتدبر في مظاهر الكون بصوره المتعددة، والمتنوعة من سموات، وما أودعه الله تعالى فيها من أفلاك وأملاك ومدارات وكواكب ونجوم، ومن أرض وما أقامه الله تعالى عليها من مخلوقات وعجائب وما أجراه فيها سبحانه من بحار وأنهار ومحيطات وريح وهواء، وما أخرجه منها من معادن وحب ونبات، لشاهد عظمة الله تعالى وعظيم إبداعه وطلاقة قدرته ودقة إتقانه واستحكامه وهيمنته سبحانه وتعالى على الكون بعوالمه..

هذا وكل هذه المشاهدات تدرك كما ذكرنا بعين البصر وحظ كل إنسان من هذه المشاهدات بقدر ما يرزق من الله تعالى من فهم وفتح، ولا يملك الإنسان صاحب البصر والبصيرة عند مشاهدته لآيات الله المتجلية الظاهرة في كل شيء إلا أن يقول سبحان البديع المبدع، سبحان الخالق المصور سبحان الله المهيمن سبحان الله..

هذا وللعلم أن ما ظهر من مظاهر صفات الله تعالى في الأكوان لا يتم إدراكه كله، بل يستحيل إدراكه، وذلك لحكم التقيد الذي أقامنا الله فيه والخاص بما يقتضيه وجودنا في هذا العالم المقيد، عالم الظهور فأجهزة الإدراك التي لدينا وهي البصر والعقل والسمع والشم واللمس كلها مقيدة ومحدودة ولله تعالى في ذلك شأن وحكمة لا تدرك إلا بالمعارف الإلهية..

التي يفيض الله تعالى بها ويشرق على قلب من يشاء من عباده من عين الكرم والجود الإلهي.. هذا ولا يغيب عنا أن صفات الله عز وجل الظاهرة في عوالم الخلق هي على أثر تجليه تعالى بنور اسمه تعالى الظاهر، وكما نعلم أن الله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم سبحانه، وكما أنه له تعالى تجلى بنور اسمه الظاهر في مظاهر الكون فله تعالى أيضا تجلى بنور اسمه الباطن..

وهذا التجلي لا يدرك بالعيون والأبصار ولا تصل إليه الفهوم والعقول، إنما تشاهده وتدركه قلوب أهل محبة الله ومعرفته عز وجل بلا كيف، وهم أهل ذكره وخاصته من خلقه، وهم الذين شغلوا بإصلاح سرائرهم وتقويم أنفسهم، وهم أهل الاستقامة والطاعة والذكر والتفكر والتأمل، وهم أهل الشهود الذين أشهد الله قلوبهم جمال وجلال صفاته عز وجل، وهم من قيل في حقهم: قلوب العاشقين لها عيون ترى ما لا يراه الناظرون، ولهم أجنحة من غير ريش يطيرون بها في ملكوت رب العالمين.

هذا ولقد تحدث كثير منهم عن مشاهدته القلبية لكنهم آثروا التلميح في قولهم، فأخفوا المعاني في العبارات وساقوا الحكم في الإشارات وكل لبيب بالإشارة يفهم، وما يتذكر إلا أولي الألباب.. جعلنا الله تعالى منهم ورفع عنا الحجاب بسر اسميه الفتاح الوهاب..

هذا ومن أبلغ ما قيل على لسانهم عن مشاهدتهم القلبية ما قاله الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: (رأيت ربي بعين قلبي، فقلت لا شك أنت أنت، أنت الذي حزت كل أين بحيث لا أين ثم أنت، فليس للأين منك أين فيعلم الأين أين أنت، وليس للوهم فيك وهم فيعلم الوهم كيف أنت، أحطت علمًا بكل شيء، وكل شيء أراه أنت، وفي فنائي، فني فنائي، وفي فنائي وجدت أنت).
الجريدة الرسمية