رئيس التحرير
عصام كامل

السترات الصفراء.. احتجاجات غير سياسية


أطلق مجموعة من الفرنسيين بيانا في شهر مايو الماضي معلنين عن إنشاء حركة السترات الصفراء، ومن خلال شبكات التواصل الاجتماعي أصبحت الحركة غير السياسية واقعا اجتذب إليه عدد من الأحزاب خاصة أحزاب اليمين المتطرف، وفي شهر أكتوبر الماضي أصبحت حركة السترات الصفراء واقعا يغطي معظم أنحاء فرنسا.. كان هدف الحركة منذ البداية مقاومة الطريقة التي يمارس بها النظام إصلاح الاقتصاد.


في أكتوبر بدأت الحركة الإعداد لأول مظاهرة لرفض رفع أسعار المحروقات بسبب تراجع القوة الشرائية بعد أن نفذ برنامج الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" إصلاحات جرى بمقتضاها رفع أسعار الديزل ٢٣٪ والبنزين بنسبة ١٤٪ وهو الأمر الذي لم يحقق للحكومة النتائج المرجوة، فأعلنت عن زيادة جديدة مع بدايات العام المقبل فكان قرار السترات الصفراء بشل حركة فرنسا بمظاهرات يهدف إلى منع وصول الشاحنات إلى مراكز الوقود.

خرج المتظاهرون وهم يرتدون السترات الصفراء في كل أنحاء فرنسا وقاموا بالفعل بشل حركة العديد من الشوارع.. المظاهرات التي راح ضحيتها مواطنة فرنسية "قضت" تحت عجلات إحدى السيارات التي أصيب صاحبها بهلع نتيجة حصار أفراد الحركة له فأراد الهروب فلم يكن منه سوى أن دهس المتظاهرة.. ألقى القبض على صاحب السيارة وخرج وزير الداخلية ليعلن للشعب القبض عليه.

المثير أن التحرك الشعبي هذه المرة قادته قوى تلقائية لا علاقة لها بالمنظومة السياسية العتيقة في المجتمع الفرنسي، واستخدمت في سبيل تحقيق أهدافها وسائل غير تقليدية فلم تنطلق من داخل حزب ممثل في البرلمان إنما انطلقت من وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها منصات شعبية يمكن لقوى غير منتظمة في الأحزاب استخدامها لتحقيق شعبية والتفاف جماهيري حول أهداف الحركة.

لم يعاند الرئيس الفرنسي وأدرك حزبه أنه كان يجب وضع الإصلاحات للنقاش المجتمعي، وحاول الرئيس التعامل مع الأزمة بواقعية، فخرج على الناس ليؤكد أنه يتفهم رفض الناس للإصلاحات غير أنها بالفعل ضرورية.. تحركت الحكومة أيضا لإقناع الجماهير بجدية ما تقوم به فأعلنت عن مجموعة من الإجراءات تتخذها لتخفيف الأمر.. من بين هذه الإجراءات أن الحكومة ستُدعم الأسر "المعوُذة" لتغيير سياراتهم إلى سيارات حديثة أقل في استخدام الطاقة وأقل في التلوث الناجم عنها!!

هذه الإجراءات حتى الآن لا تُرضي قادة السترات الصفراء، والحكومة من جانبها تركز على الحوار المجتمعي لإدارة الأزمة.. أحزاب سياسية وجدت في احتجاجات السترات فرصة للوجود على الساحة مع الجماهير، فشاركت وتشارك في الإعداد لأحداث أخرى في القريب العاجل لوقف برنامج الحكومة أو تعديل مساره لتخفيف آثاره على "الغلابة" في فرنسا.. المثير أن وزارة الداخلية لم تستطع أن توجه تهمة واحدة لحركة اليمين المتطرف ولا تستطيع أن تفعل ذلك!!

أدت احتجاجات السترات الصفراء إلى انخفاض شعبية "ماكرون" لأكثر من ٢٥٪ واستغل قادتها مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن غضبهم رغم حيادية وسائل الإعلام الفرنسية، وتعاطفها مع حركة الجماهير.. عبر قادة الحركة في مقاطع فيديو عن رفضهم لإصلاحات ماكرون وأعلنوا أنهم سيواجهونها بكل حسم وحزم.

هذا السجال الديمقراطي تجري وقائعه بين رئيس منتخب وحزب فائز بقرار جماهيري.. تلك الجماهير التي "ترتئي" أنها لم توقع على بياض لـ"ماكرون" إنما لا يزال لها الحق في الاعتراض والاحتجاج والرفض، وعلى الرئيس أن يدير حوارا راقيا للوصول إلى حالة رضا جماهيري وقناعة شعبية تدعم ما يفعل من أجل تحقيق منجز لفرنسا وشعبها وإلا كانت النتيجة غياب الرئيس من المشهد نهائيا مع أول انتخابات مقبلة.
التداول السلمي للسلطة هو الحل السحري لكل تغيير ليظل القرار بيد الشعب ولا قرار بغير رضا الشعب!!
الجريدة الرسمية