رئيس التحرير
عصام كامل

وداعا «خيري منصور».. عاشق القاهرة


قافلة طويلة لعشاق القاهرة تمتد منذ أن بناها المعز لدين الله الفاطمي قبل أحد عشر قرنا، إنهم خليط من المغامرين والتجار والعلماء، وفيهم الكثيرون ممن هربوا من الاضطهاد الديني والعرقي، وفيهم من ران بصره إلى مآذن وقباب وكنائس القاهرة وقصورها.


هذه الحالة الحضارية الاستيعابية الفريدة، ورغم حداثة القاهرة فإنها اندمجت في النسيج الحضاري المصري الذي يمثل أقدم حالة دولة في التاريخ الإنساني، ولن تجد حالة إنسانية حضارية تعرضت إلى الحسد والاستهداف مثل هذه المدينة الفريدة، أحد هؤلاء صديقي الحبيب الكاتب الصحفي الشاعر خيري منصور، الذي وافته المنية هذا الأسبوع في عمان عن عمر ناهز ثلاثة وسبعين سنة.

خيري ابن رام الله الذي طردته إسرائيل بعد نكسة حزيران فبدأ رحلة تنقل أخذته إلى شتى بلاد العالم العربي، لكنه لم يكن يجد نفسه إلا في القاهرة، يعشقها ويعشق شوارعها ونزقها وأسواقها وزحامها ومقاهيها... ما أتى بي إلى القاهرة هو لحد كبير ما أتى بخيري وما أتى قبل قرنين من الزمان بجدي الأكبر الشيخ محمد البدوي كبير علماء السودان في أواخر القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين.

إنه ذلك النور النابع من مراكز العلم ومراكز تجمعات البشر، فالمقهى المصري تاج على رءوس المصريين لا يراه بشكل جيد إلا الأجانب، حالة من الحميمية والاستيعاب الفوري تجذب كل غريب ليصبح جزءا من المكان، سألوا خيري منصور ذات مرة وكنا في كافيه ريش وكان خيري يستعد مع رئيس تحرير مجلة الهلال آنذاك الأستاذ مجدي الدقاق لزيارة شيخ النقاد العرب المرحوم رجاء النقاش، سألت خيري وقد اعتذر عن ندوة في بلد خليجي كانت ستدر عليه أموالا كثيرة قال لي هذا وقتي في القاهرة ولا يمكنني قطعه لأي هدف.

سألته لماذا القاهرة؟ قال هي المدينة الوحيدة التي تستطيع تحمل تجاوزاتي.. ومن يعرف خيري يعرف أنه كان إنسانا هادئا نبيلا.. ولم يكن ذلك الشاب النور قال إنها حالة وجودية. كلنا خارج القاهرة كالسمك خارج الماء. ذات مرة كنت وإياه في تاكسي في الصيف والزحام ورائحة المازوت تعبق الجو.. أخذ نفسا عميقا ثم قال لي بدك تحسبني مجنون لكنني والله بعشق ها السخام..

كنا نتحدث عن تكدس السكان في القاهرة والعشوائية والإزعاج... قال خيري هذه هي القاهرة... حالة لا حياد فيها. أما إن تتافف منها وتكرهها أو أن تعشقها كما هي أذكر ليلته أنني أنشدت المقطع الأخير من قصيدة الفيتوري معزوفة لدرويش متجول:

في حضرة من أهوى عبثت بي الأشواق
فحدقت بلا وجه
ورقصت بلا ساق
وزحمت براياتي وطبولي الآفاق
مملوكك لكني سلطان العشاق..
رحم الله خيري والمجد لمعشوقتنا القاهرة.
الجريدة الرسمية