رئيس التحرير
عصام كامل

الصورة الذهنية سابقة التجهيز


الصورة.. ربما تبني من الخيال الذي هو جزء من الوعي يحوى الكثير من الحواس، تنتقل ذاكرة الحواس إلى العقل الأيقوني لتشكل وترسم بفرشاة من الروح تعكس ذاكرة ما لحدث أو حلم قادم أو أداة إثبات أو نفي أو دعوة لإثارة.. أو ترسيخ لفكرة.. هو نمط من الشكل يخلق ليظل ثابتا على صراط خارج حدود الزمان والمكان.. يظل هناك ساكنا في منحنيات القلب أحيانا فاعلا ومرات مفعولا به.


الصورة تؤثر وتتأثر، تلعب بالمشاعر والأفكار، اللون، الظل، الزاوية، بطل الصورة.. القطع مستدير، مربع، مثلث، الخطوط متوازية، مستقيمة، متقاطعة، ربما متوارية لتشي بأكثر مما تقدم تلك الصورة.. الصورة لها رائحة وصاحبه إيقاع يتباين في درجة تأثيره ودرجة تأثره بالفكرة لها حضور أو ربما غابت لتبحث عنها.

الصور من طقوس المناسبات ربما تلخصت أحيانا المناسبة في البوم صورها، ومرات تأتي الأغنية كصورة لتتوج تلك المناسبة، فالأغنية أيضا هي صورة وجدانية تطرح مشاعر وأفكار تلمس ما بداخلنا، أو تدفعنا للوقوع في معني معين والتلامس معه، الصورة هي بطل في حياتنا منذ أزمنة بعيدة، هي أداة في التأثير على الوجدان.. وأداة للتعبير عن الوجدان، أداة في التأثير على العقول، أداة لطرح ما يدور داخل هذه العقول.

بداء الإنسان القديم بالرسم على الكهوف، رسم صيد الحيوانات، رسم الطبيعة للسيطرة عليها ثم تحولت الصور إلى رموز وأيقونات تجلب له النصر والتحقيقات وتجلب له الحماية.

رغب دوما الإنسان في تسجيل وتخليد كل ما يمر بحياته وأفكاره ومشاعره في شكل صور، ربما لهذا الدور الكبير الذي يحتله العقل الأيقوني داخل التكوين البشرى. وربما أن الذاكرة الفوتوغرافية هي من أقوى أنواع الذاكرات لدى الإنسان.. ربما أن الإنسان يعتز بملكاته الفريدة التي تميز بها عن سائر المخلوقات، هو المخلوق الوحيد القادر على الرسم والتصوير لكل ما يدور حوله.

تطورت الحياة الاجتماعية وتطور الإنسان فى استخدامه لكل أدوات الحياة، تطور استخدام الصور بشكل مبهر يدعو للإعجاب وتعددت وتنوعت أوجه الاستخدام، مجالات لا حصر لها في السينما، الفوتوغرافيا عبر الإنترنت، والأبحاث في والفلك والطب أو للمتعة والإبهار ولزرع أفكار أو لهدم أفكار.

معظم باقات التنوع البصرى تخدم أهدافا إيجابية ومنجزة، لكننا سنتوقف عند صندوق من الصور الذهنية سابقة التجهيز، والتي أتت الينا من عوالم تكاد تكون خفية لا نعلم مصادرها ولا تواريخها، ولكن في الحقيقة يتم استقبال الصور سابقة التجهيز بتصديقها وتناولها بيقين وايمان إلى أن تصبح جزءا منا ويتم اعتمادها كحقائق ثابتة.

أصبحت الصور الذهنية سابقة التجهيز تحيا بيننا وتنتقل عبر الأجيال تحمل مضامين غير مناسبة لسياق حياتنا وتفكيرنا الحالى تثقلنا بطقوس غير ذات جدوى...ومن سياقات كثيرة أجدها تسئ إلى كثيرين، بعيدين كل البعد عما قدم عنهم في تلك الأقصوصات من الصور الممنهجة الخالية من الحيادية.

قد صنع من أتم صنع الصور سابقة التجهيز وأنتج ومنحنا منحته، وهو يحمل داخل أركان عقله وأهدافه هو التي لم نجتهد لتحليلها أو إعادة فهمها، نتلقفها ككرة بينج بونج ونعيد تصديرها، لا نبذل الجهد في محاولة رؤية نقدية لها، أو حتى إمكانية تخطئتها فالعقلية النقدية لا تقوم بأداء دورها في معظم الأوقات. إنما تدخل في سبات عميق ويتم تداول الصور بلا مرجعية ذاتية حقيقية.

الصور الذهنية سابقة التجهيز تملأ حياتنا بالزحام تراهن على سبات العقل، أراها بوضوح تتراشق على نوافذ وجدران المنازل راسمة ظلالة باهتة رمادية في أغلب الأحيان تشبه الدخان.

هنا ويوجد ألبوم صور قديم له غلاف متداخل الألوان والنقوش، نقوشه تشبه نقوش صندوق جدتي الكبير، صور كثيرة داخل الألبوم سابقة التجهيز، بها مغالطات بعدد سنين ضوئية، كلها بفعل فاعل مع سبق الإصرار والترصد، والفاعل مجهول الهوية والجنس وقد اختفت شهادة ميلاده.

جميع الصور رغم قدمها تبدو للنظرة الأولى كأنها واضحة جدا، بدأت أعبث بالصور.. صورة شيطان ذي مخالب قبيح الوجه يحمل قرنان... ليس هكذا يرسم الشيطان، هذا القوى الذكي المتغلغل إلى النفس العابث بالعقول، اعتقد أنه جميل الطلة، بريء من المخالب والأنياب، يحمل على كفيه كؤؤس البهجة.. قام الفاعل المجهول برسم الصورة الأولى للشيطان، ووقفت أنا أتأملها وقررت إعادة رسمها كما أراها داخلي فرسمت الصورة الثانية....

يملأ الفاعل المجهول ألبوم الصور بصور جيرانه... صورة لرجل دين يتحلى بابتسامة صباحية، ويعبث في وجه مريديه تهديدا ووعيدا بجهنم تحرقهم، يخبرهم أن الرب غاضب، وأنهم خطاءون، وأن الحياة خطيئة كبرى إذ عاشوا فيها هانئين... رجوتك يا فاعل أن تدخل شيخك يشرب من نهر الكوثر، ويعود بلا عطشا حتى لا يشىرب عرق مريديه وتجف عروقهم.

تلك صبية ترقص في الحانة ليلا.. ترقص كي تحضر دواء لجدتها.. جدتها ترقد بجسد متهدل يلفظ الروح لبارئها لكن الرقدة أضحت سنوات، البنت ترقص أمام المارة في حانة بلا أسوار... لم تملك سوى جسد ممشوق فتجلى الرب الأعظم في إتمامه لم ترقص يوما في بيت مغلق يمتلكه تاجر غلال... لم تنم ليلتها على وسادة جارتها القبيحة، لم ترض أن تخدم في ييت الناظر وتكون ملك يمينه..

اما تلك الصورة ذات بريق ذهبي لسياسي قديم يخبرنا أنه نابغ.. ولا أحد من هناك قد تحدث عن أي نبوغ، الكل ينبئ عن لمعانه.. سيفه يلمع ونجوم تضوى على كتفيه، جيوش خيول لها ذيول فضية يسمع عنها أصوات نباح تقتل كل المارة..

أما صورة الجميلة.. بائعة زهور القرية فتلبس فستانا أحمر يتوهج ويغني.. يحمل خداها كل زهور الحقل ويغرس طابع حسن يقال عنه هو قبلة من مغرم بزهور الأوركيد البيضاء... تفتح شرفتها عند شروق الشمس وغروبها تبيع زهورا وعطورا.. وقد أخبرني أقدم رجل في القرية أنها تصنع خبزا مسموما من عطر الأوركيد الأبيض وتبيعه هناك. لمرضي السرطان..

أغلقت الصندوق
قررت أن أرسم
أرسم لوحة لصديقي هو حامل الصليب..
قد سابوه الأرض وماء النهر.. أعطوه القمح ليعمل طحانا يطحن ليل نهار، وصليب صديقي مرشوق يصعد إلى السماء، يشكر الرب ويصلي من أجل أبناءهم.

ساوقع إمضائي على اللوحة وسأكتب التاريخ
وليشهد التاريخ

توجد الكثير من الصور الذهنية سابقة التجهيز تحمل مغالطات ساذجة تخص فقط من رسمها.. أنماط من الصور تعبث بحياتنا وتكبل أفكارنا تستخدم من قبل الفاعل المجهول لإتمام تنميط سلوكنا ليصبح له السيطرة.

نحن يا سادة نملك منطقنا وأفكارنا وتجاربنا، لنا إرادة يجب علينا الوقوف أمام الصور سابقة التجهيز لتأملها وإعادة صياغتها بيقين ذاتي، وتوجه شخصي حقيقي ومقدرة حرة على التحليل والاستنتاج.

يجب أن تصبح مقدساتنا هي عابره لعقولنا نحن، مشمولة بخمر أفكارنا نحن.. يجب أن نمتلك القدرة على إعادة رسم الصور وتعميدها بقناعات خاصة وليس بصكوك وأختام الفاعل المجهول.

جميعا نمتلك العقل القادر على التحليل والاستنتاج، نمتلك الخصوصية لذواتنا وتذوقنا... فلم يعد من المقبول أن نوضع في براويز مذهبة، تحت ألواح زجاجية تعكس صورة من يقف أمامنا.

فلتكن صورنا هي انعكاس لأرواحنا وبصمة وجودنا بتنوعها وقيمتها، فلنتحرر ونعيد رسم كل الصور الذهنية السابقة التجهيز كي نرقي إلى حياة نحتارها وتناسبنا.. فليسقط الفاعل المجهول ولتتقدس الصور غير سابقة التجهيز. 
الجريدة الرسمية