رئيس التحرير
عصام كامل

20 عامًا على رحيل شاعر الياسمين.. هنا عاش نزار قباني بمصر (صور)

فيتو

«تجمع مصر حروف اسمها الجميل..وتعيد تطريزه على حواشي منديلها المبلل بالدموع، تكتبه بالخط الكوفي العريض، على جدار النهار.. تسترده من قاع البحر.. وأسنان سمك القرش، وحطام المراكب الغارقة..تُلصق الميم إلى جانب الصاد.. وتُلصق الصاد إلى جانب الراء.. وفجأةً تتدلى من سقف العالم نجفةٌ من الزمرد الأخضر اسمها: مصر».



في شارع جانبي من ميدان الدقي بالجيزة، على ناصية شارع عبدالرحيم باشا صبري تحديدًا، الذي لاتزال معظم بناياته محافظة على طرازها الكلاسيكي، تقبع الفيلا رقم ١٨، صامتة حزينة، بعدما هجرها صاحبها الدمشقي قبل ٢٠ عامًا مضت.

سور ممتد وبوابتان حديدتان، يقف خلفهما حارسان لواحدة من شركات الحراسة الخاصة المعروفة، يبدو اسمها واضحًا على زيهما الرسمي، أحدهما ينزوي خارج غرفة الحراسة المتواجدة بحديقة الفيلا، يستريح برهة من الزمان وقت القيلولة، عله يستنفد جزءًا من الوقت في نهار الصيف الخانق. 

يستقبلنا الآخر ويخبرنا أنه لايعلم شيئًا عن هذا المبنى ونزلائه قبل ثماني أشهر - فترة استلامه العمل لحراسة المكان- سوى أنه كان مقرًا للسفارة السورية حتى عام ٢٠١٢، قبل أن تنتقل إلى مقرها الجديد في حي جاردن سيتي.

نستأذن الحارس في السماح لنا بالتصوير داخل المبنى المهجور، فهو الشاهد على بدايات نزار قباني، الشاعر السوري المرموق، والذي ظل يتردد عليه طيلة حياته حتى بعد تركه للعمل الدبلوماسي وتفرغه للشعر والكتابة، يصمت قليلا وقد بدا على وجهه علامات القلق، ثوان ويستجيب لنا قائلا:« مافيش مشكلة بس استأذنكم هعمل تليفون لرئيسي».

يغيب الحارس لدقائق، ولازلنا ننتظر أمام البوابة الرئيسية، يعود ليخبرنا إنه هاتف المسئول ولم يرد، وهنا يتخذ القرار ويسمح لنا بالدخول فقط إلى ساحة الفيلا الخارجية، مؤكدًا أن القصر - على حد وصفه- مهمل ولا يوجد به أثاثات أو متعلقات. 

لا يكاد الحارس ينهي حديثه، حتى هرولنا مسرعين إلى الساحة الداخلية للمبنى، حيث الحديقة التي افترشت أرضياتها بورقات الشجر الذابلة، وأخرى ممن قاومت فعل الشيخوخة والإهمال لا تزال يانعة، يتوسط المبنى باب ضخم، ونوافذ بذات الضخامة.. جراج وطابق سفلي فارغ تمامًا من الأثاث، تهشمت بعض نوافذه الزجاجية، علمنا فيما بعد أنها كانت مكاتب لموظفى السفارة.

أجواء المكان أعادتنا إلى 73 عامًا مضت، وتحديدًا ربيع عام ١٩٤٥، عندما أتى نزار قباني إلى القاهرة في أول زيارة رسمية، بعد تخرجه في كلية الحقوق جامعة دمشق، ليلتحق بعدها بالسلك الدبلوماسي، وهو في سن الـ٢٢، ويشاء القدر أن تكون أولى محطاته القاهرة، كموظف دبلومي في سفارة سوريا، لأعوام طويلة قبل سفره إلى تركيا وإنجلترا.

شاعر الياسمين، كما لقبوه، اتخذ من مقر السفارة مسكنًا له، فكان محل عمل ومعيشة، حتى بعد اعتزاله العمل الدبلوماسي ظل مرتبطًا بالمكان الذي انطلقت منه الشرارة الأولى لشهرته كشاعر على غير العادة، بين الأوساط الثقافية المصرية منتصف الأربعينات، فهو الشاعر البكر القادم من بلاد التفاح الأخضر يحمل في جعبته ديوان تمرد على المألوف وأطاح بالتقاليد يحمل اسم «طفولة نهد».

رقم هاتف السفارة الذي تغير الآن عشرات المرات، دون في ذاكرة التاريخ عن شخصية نزار قباني الكثير، من خلاله استقبل محادثات لأشهر الشعراء والصحفيين والإذاعيين المصريين في ذلك الوقت، فكان صديقا لأنور المعداوي، الناقد الكبير، الذي آمن بموهبته في مهدها، وكامل الشناوي، وحتى توفيق الحكيم، وكثيرون من مشاهير ونجوم الثقافة في ذلك الوقت.

أواخر ١٩٦٦، اتخذ «قباني» قرارًا مصيريًا وتفرغ للشعر، ولم يمض كثيرًا على هذا القرار، وكانت نكسة ٦٧ ولما كان هو صاحب فكر قومي عروبي، ولما كان جل ما يمتلكه الكلمة كتب قصيدة «هوامش على دفتر النكسة»، فكانت كلماتها بمثابة سهام أصابت قلوب المسئولين، هنا تدخلت تقارير الأجهزة الأمنية آنذاك وأوهمت عبد الناصر -الذي أحبه «نزار» حبًا جمًا- أن الشاعر السوري يهين الجيش العربي والرئيس، فأصدرت قرارًا بمنعه من دخول مصر وحظر نشر دواوينه.

اكتشف الدمشقي قرار منعه من السفر بمحض الصدفة، ولما كانت مصر هي المقربة والعزيزة، لم يقف الشاعر مكتوف الأيدي أمام القرار، وتواصل على الفور بالسيدة أم كلثوم، المقربة من ناصر، علها تتدخل لحل الأزمة، وبالفعل تواصلت مع الرئيس وأخبرها أنه لايعلم شيء عن هذا القرار.

وفي هذه الأثناء وهذا التوتر كتب الشاعر المحظور قصيدة عاتب فيها زعيمه جمال عبد الناصر في رسالة قال فيها: «لا أريد أن أصدق أن مثلك يعاقب النازف.. على نزيفه المجروح.. على جراحه.. ويسمح باضطهاد شاعر أراد أن يكون شريفًا وشجاعًا في مواجهة نفسه وأمته فدفع ثمن صدقه وشجاعته.. يا سيدي الرئيس لا أصدق أن يحدث هذا في عصرك».

كان نزار ذكيًا وموهوبًا، توقع أن كلماته ستغير شيئًا في نفس عبد الناصر، الذي لم يعلم شيئًا عن منعه، وبالفعل أثرت به ورفع الحظر عن أعمال قباني الفنية في مصر، وأصبح أكثر قربًا لرئيس مصر.

حسن أمين، رجل شارف على الثمانين من العمر، يجلس في شرفته المتاخمة للفيلا رقم ١٨، تابع تحركاتنا، ابتسامته وهو يتابع تحركاتنا في الشارع، نستفسر من ساكني الشارع عن أحد، عاصر نزار قباني أثناء وجوده داخل الحي، كانت بمنزلة الدافع الذي حفزنا للاقتراب منه، وعلى الفور أشار بيديه ملوحًا لنا بالصعود، يستقبلنا قائلًا: «أهلًا يا شباب بتدوروا على مين؟ فأجبناه مقر حياة نزار قباني» ابتسم مرة أخرى وأكد أنه عاصر وجوده داخل السفارة وكان لتوه يدخل مرحلة الشباب، يؤكد أطلقنا عليه الشاب الدبلوماسي الوسيم، التي كانت تنتظره فتيات الشارع لساعات في شرفات منازلهن، عله يلتفت إلى إحداهن يومًا ما».

يقول الرجل الثمانيني: "لم يكن أحد يكترث من سكان الحي، بوجوده باستثناء الفتيات، علمنا فيما بعد أنه نزار قباني، الشاعر السوري المتمرد، لم يكن له احتكاك كبير بمن حوله، ولا سيما أنه يستقل سيارته من داخل مبنى السفارة في أغلب الأحيان، ورغم هذه العزلة التي فرضتها عليه طبيعة وظيفته والمكان، إلا أنه كان حريصًا أن ينتهز أي فرصة للتريض في شوارع الدقي».


يتذكر الجار بعض المواقف القليلة للشاعر السوري يقول : «كان ودودًا يلقي السلام على الجميع، من حارسي الحي وأصحاب المحال، عرفنا فيما بعد أنه مٌنع من دخول مصر وكان قد غادر عمله بالسفارة، عندما ذاع صيته، أصبح الشارع بأكمله يردد اسمه ويعتز بوجوده يومًا ما داخل شارع عبد الرحيم باشا صبري، إلا أننا لم نعد نراه بعدها، حتى في الفترات التي زار فيها السفارة قبل وفاته بقليل في ١٩٩٨».

محطات شاعر الياسمين في المحروسة لم تنتهِ أبدًا، فهي في عينيه كانت، زهرة اللوتس وقصيدة المياه، بل هي نجفةٌ في سقف العالم من الزمرد الأخضر، اسمها «مصر».

الجريدة الرسمية