رئيس التحرير
عصام كامل

كيف تصنع دولة فاسدة ؟!


لم أستطع خلال الشهور الماضية أن أنسى العبارة القاتلة التي أطلقها الرئيس السيسي في مؤتمر الحصاد، الذي عقده في الفرافرة، والذي وصف فيه مصر بأنها "دولة هشة" أو شبه دولة.. الأمر الذي جعلنى أعود ثانية للغوص في دهاليز السياسة؛ أفتش عن إجابات لأسئلة ملحة، ظلت تراودنى كثيرًا بعد سماع تلك العبارة الصادمة لكل مصري غيور على وطنه. وتسألت مع واقعنا المرير هل نحن بالفعل دولة هشة؟ وإذا كانت هي كذلك.. فما الذي جعلها كذلك؟ وأثناء محاولتى للبحث عن تلك الإجابات؛ توقفت كثيرًا عند مفهوم الهشاشة، وخصائص البلدان الهشة، وتساءلت هل الفساد يعنى الهشاشة؟ أم أن كليهما ربما يدفع إلى الآخر؟!


ورغم أن معظم كتابات فلاسفة السياسة قد تحدثت عن مفهوم "الدولة الصالحة" التي أطلق عليها أفلاطون اسم "الجمهورية" بينما أطلق عليها الفارابى "المدينة الفاضلة".. فإن الكتابات التي تناولت مفهوم "الدولة الفاسدة" كانت ولا تزال نادرة!

ففى الوقت الذي سقطت فيه كثير من الدول في أتون الهشاشة والفساد.. كانت أصابع الاتهام دائما تتجه صوب "الحكام"؛ وتحملهم المسئولية الكاملة في إفساد بلدانهم.. وترى أن الخلاص من الهشاشة لن يحدث؛ سوى بالإطاحة بالنظم الفاسدة، واستبدالها بأخرى صالحة! فقد كانوا على قناعة بأن الدول ككيانات هي صالحة بطبيعتها، وأنها لا تفسد إلا بخطأ إنساني متعمد!

بمعنى أن الدول بطبيعتها مهيأة للنهضة والتقدم.. لكن ثمة أشخاص برتبة "حكام" عادة يحولون مسارها -عن عمدٍ-إلى طريق آخر غير مرغوب؛ مما يجعلنا نستنتج أنه ليست هناك دول فاسدة.. بينما هناك حكام فاسدون!

وإذا كانت الدولة الصالحة هي الدولة التي تدفع مواطنيها إلى التفكير كمواطنين أحرار، شركاء في الوطن الذي يعيشون فيه، وليس كإجراء أو مستأجرين، أو كضيوف ومتفرجين.. فقد استخدم فلاسفة السياسة مصطلح "ديستوبيا" أو عالم الواقع المرير، للإشارة إلى المدينة الفاسدة أو المكان الخبيث.. والتي يصفونها بأنها مجتمع خيالي فاسد أو مخيف أو غير مرغوب فيه..

وتتميز "الديستوبيات" أو المدن الفاسدة غالبًا بالتجرد من الإنسانية، وتتسم حكوماتها بالشمولية ويعانى سكانها من الكوارث البيئية وغيرها من الأزمات المرتبطة بانحطاطات كارثية في المجتمع.. لهذا فقد اتخذت "الديستوبيا" مجموعة من الخصائص، مثل تفشي الفقر والتلوث البيئى والتأخر في التعليم، بالإضافة إلى الانحطاط السلوكى والضعف الصحي والانهيار المجتمعي والقمع السياسي؛ ومن ثم تراجع معدلات الانتماء في تلك البلدان يومًا بعد الآخر!

وربما تثير تلك المناقشات "لغطًا" حول مفهومى الفساد والهشاشة؛ خاصة أن مصر قد تراجعت هذا العام 11 درجة لتحصل على المرتبة 38 عالميًا بالنسبة للهشاشة بعد أن كانت الدولة رقم 49 في عام 2010م.. رغم أنها قد حققت تقدما ملحوظا في التقليل من معدلات الفساد، لتحصل على المرتبة 88 عالميا بعد أن كانت الدولة رقم 114!

وعلى كل حال.. فعادة ما تقع الدولة الفاسدة بين هشاشتين: الأولى "هشاشة المجتمع" والتي تحدث حينما تدب فيه الانشقاقات والشروخ، وتأخذه ديناميات الانقسام إلى صدام مُعلَن أو دفين؛ حيث تتحول فيه الخلاقات الاجتماعية إلى صراع سياسي حاد.. كتلك الخلافات التي وقعت في مصر إبان ثورة 25 يناير 2011م، بين القوى المدنية والدينية.

والثانية "هشاشة الدولة" فبموجب هذا التصدع في بنية المجتمع، قد تفقد سلطانها السياسي، كما حدث في لبنان عام 1975.. أو ربما تفقد تماسكها ووظائفها، كما حدث في العراق عام 2003م، وربما تنهار، كما هو الحال في الصومال!

ومن ثم فإن فساد الأنظمة الحاكمة وكذلك فساد النخبة السياسية والمثقفة تعد جميعها عوامل أساسية للهدم؛ تدفع البلدان دائما نحو "مطحنة" الهشاشة.. تلك الهشاشة التي تتحول إلى شبح يهدد بقاء واستمرار تلك الأنظمة، حتى وإن كانت صالحة!

لم يخطئ الرئيس السيسي حينما قال إنه يحكم دولة هشة.. فقد سبقته تقارير دولية كثيرة، تؤكد مقولته بمؤشرات عشرة، تتعلق بأمن المواطنين وسلامة المجتمع، كمعدلات الجريمة و"النشاط الإرهابي"، والتظاهرات العنيفة، والعلاقات مع الدول المجاورة، واستقرار الوضع السياسي، فضلًا عن الإنفاق العسكري من الناتج المحلي الإجمالي، ومؤشرات أخرى تخص الوفيات الناتجة عن جرائم القتل والنزاعات المسلحة والنزاعات داخل الدولة.. وإذا كان الرئيس قد أدرك كل هذه المؤشرات، فإن عبارته لا تستدعى العبث ولا السخرية، وإنما تستدعى الانتباه، وإعادة التفكير في الحلول، والبحث عن مسار ساسي مختلف؛ للخروج من الأزمة، بعيدا عن العِند والمُكابرة! فرغم أن العالم يرانا هكذا.. فإننا مازلنا نرفض وصفنا بأننا دولة هشة أو فاسدة!

إذًا ليس بالضرورة أن نكون دولة فسادة حنى نصبح دولة هشة.. وليس بالضرورة أيضًا أن يكون النظام فاسدًا حتى نتحول إلى دولة هشة.. وإنما بالضرورة أن ندرك أننا دولة هشة، وأن لدينا معدلات مرتفعة من الفساد، وأن يدرك كل مواطن في مصر بأنه جزء من الحل.. وإن لم يكن جزءًا من الحل فهو جزء من المشكلة!

لم أطالب النظام في هذا المقال بما لا يستطيع.. ولا أُحَمِلُه بما لا يطيق.. ولكننى أترك أمامه ملف "التعليم" الذي إن تمكن من إصلاحه؛ فقد تمكن من إصلاح كل ملفات الفساد.. فيكفى النظام أن يدرك أن التعليم في مدارسنا.. لا يسهم في البناء المعرفى للطلاب.. فقط يعدهم لاجتياز أسئلة الامتحان!

إن معظم الدول التي تم تدميرها.. بدأت بــ "تدمير" التعليم، وتكريس"الغش" كأداة أساسية لتجاوز المراحل التعليمية؛ فيتم علاجنا في مستشفيات أطباؤها نجحوا بالغش، ويتعلم أولادنا في مدارس نجح مدرسوها بالغش، ونسكن في أبراج بنيت على أيدي مهندسين نجحوا بالغش، ونأكل من مزارع أشرف عليها مهندسون نجحوا بالغش!

وعلى أي حال فلن تخرج مصر من كبوتها سوى بـ "إلإيمان بالله" من خلال الاهتمام ببناء دولة القيِّم، وبـ "الإيمان بالوطن" من خلال بناء دولة السياسة.. في إطار من "إيمان الدولة" بأن الطعام حق لكل فَم.. و"إيمان الشعب" بأن العمل فرض على كل ساعد.. وإذا لم يساند الشعب النظام في صناعة التغيير؛ فقد أسهم عن عمدٍ في صناعة دولة هشة.. وإذا لم يؤمن النظام بقدرة الشعب على صناعة التغيير؛ فقد تورط عن عمدٍ في صناعة دولة فاسدة!
Sopicce2@yahoo.com
الجريدة الرسمية
عاجل