رئيس التحرير
عصام كامل

حقيقة أوضاع العرب والمسلمين بفرنسا


أمضيت أسبوعي في الرد على رسائل الأصدقاء عن حقيقة فيديوهات وصور وأخبار كاذبة انتشرت كالنار في الهشيم بعد أحداث باريس الأخيرة؛ كوني أعيش بفرنسا منذ سنوات طويلة ومتابعة لإعلامها وتطوراتها السياسية، والحقيقة أن أحد أسباب انسياق الناس لهذه الشائعات التي كان هدفها التقليل من التعاطف مع أبرياء مدنيين سقطوا ضحايا للإرهاب الذي عانينا منه في بلادنا العربية سنوات طويلة، هو عدم معرفتهم بمثلت ثلاثي الأضلاع بفرنسا، أوضاع العرب والمسلمين، وطبيعة الشعب الفرنسي، والأحداث المؤثرة على الرأي العام والساحة السياسية.


فرنسا بها ما يقارب الستة ملايين عربي ومسلم، بعض الشباب يعيش بأوراق إقامة دول أوربية أخرى كإيطاليا واليونان، وهناك عائلات كاملة بلا أوراق شرعية تنتظر تسوية أوضاعها، ومن وقت لآخر يصدر قانون يساعدهم في الحصول على أوراقهم بشروط معينة.

أدركت فرنسا من فترة مشكلة الزواج "الأبيض"، وهو زواج فرنسية بشاب عربي، فوضعت قوانين صارمة للتحقق من صدق الزواج، نسبة لا بأس بها من العرب تعمل "بالأسود"، وهو عمل غير معلن للحكومة ولا تدفع الضرائب، نسبة لا بأس بها أيضا تنجب أطفالا للحصول على أموال من الدولة وسكن بالمساكن الشعبية بإيجارات زهيدة، شريحة كبيرة من العرب تعمل ومندمجة في المجتمع الفرنسي بشكل جيد جدا، ولكن شريحة أخرى لا يستهان بها تجمعت في ضواحي المدن الكبيرة وكونت ما يشبه دولة داخل دولة، فليس لديهم احتكاك كبير بالفرنسيين أو انفتاح على الثقافة الفرنسية، ولا يجيدون اللغة الفرنسية وطبيعة أعمالهم في الحرف اليدوية، بطبيعة الحال أولادهم خرجوا إلى الحياة مختلفين، منهم من استطاع تخطي هذا التناقض الذي يعيش فيه بين مجتمعه والمجتمع الفرنسي الخارجي وتفوق ونجح، ومنهم من اتجه إلى الجريمة والسرقة والمخدرات، خاصة هؤلاء الذين تركهم أهلهم عالة على فرنسا في الملاجئ، فربما حمل من الحقد الكثير لمجرد كلمة جرحته وذكرته أنه عربي، وأمثاله استطاع داعش تجنيدهم لأن علاقتهم بالإسلام الصحيح ضعيفة.

والحقيقة أن فرنسا دورها ممتاز في التعليم والصحة بالمجان لهؤلاء جميعا، إلا أن هذا لا ينفي بعض العنصرية الفردية التي تؤثر كثيرا في الشخصية العربية الحساسة بطبيعتها، وأذكر في أحد الأفلام الفرنسية أن تعرض مشهد لهذه الفكرة، حين قال ضابط فرنسي لزميله من أصول عربية: لماذا أهل الحي الذي أنت منه على هذا القدر من العنف؟، فقال له لو أن الحكومة تنفق عليهم ما تنفقه على نافورة في باريس، لما كان هذا حالهم، ورغم أن المشهد حمل بعض المبالغة إلا أنه يوضح أن سمة انفصالا موجودا بين المجتمع الفرنسي.

حتى المجتمع العربي داخله فيما يشبه الانقسام غير المرئي، الذي أصبح واضحا جليا بعد مأساة شارل إيبدو، حين وقف الجميع دقيقة حدادا على الضحايا ولم يقف بعض الطلبة في المدارس بالأحياء العربية، وهنا أدركت فرنسا متأخرا أن بها من لا ينتمي إليها رغم أنه على أرضها، وقد كانت تتصور أنها قدمت لهم ما يضمن ولاءهم من رعاية، ولكن المراهقين الصغار يعيشون مع أهلهم المسلمين الذين غضبوا من رسومات شارل إيبدو، فبدأت فرنسا تحاول عمل حوار مع هؤلاء قبل أن يكبروا ويصبحوا ضدها بشكل مباشر أو غير مباشر.

قبل الانتخابات الفرنسية الأخيرة منذ ثلاثة أعوام، كانت حادثة محمد المراح وهو فرنسي من أصل جزائري، له تاريخ إجرامي، كان يركب موتوسيكلا ويضع على صدره كاميرا في مدينة تولوز وقتل عسكريين من أصول عربية كانا في أفغانستان، وأطلق النار عشوائيا أمام مدرسة يهودية وقتل ثلاثة أطفال، وبعد تصفيته كان للحادثة المريعة أثرها على الانتخابات.

وعلى الرغم من صعود هولاند للحكم، وهو من حزب اليسار المعتدل في تعامله مع المهاجرين، والراغب في إعطائهم مزيدا من الحقوق، إلا أنها كانت المرة الأولى التي يحصل فيها اليمين المتطرف متمثلا في رئيسته مارين لوبين، على 20 بالمائة في الجولة الأولى، في حين حصل ساكوزي على نسبة 25 بالمائة، وهولاند على 26 بالمائة، وهذا هو رد الفعل الذي ننتظره من الفرنسيين في الانتخابات القادمة، فردود أفعالهم كشعب ليست مثلنا انفعالية عاطفية وليدة اللحظة ثم تختفي بعد ذلك وكأنها لم تكن، وإنما ردود أفعالهم أكثر هدوءا وعمقا وتأثيرا على المدى الطويل، فوصول اليمين المتطرف المنتظر للحكم والراغب في تقنين التواجد العربي والإسلامي بفرنسا، من ِشأنه أن يغير قوانين وطريقة تنازل ملفات كثيرة عربية وإسلامية في أوربا كلها، وليس في فرنسا وحدها، وسيصل تأثيرها إلى الدول العربية.

ولكن هذا لا يمنع أن فرنسا أدارت أزمتها الأخيرة بجدارة، خاصة هولاند الذي نادى بفرنسا متوحدة، تلك الكلمة التي لم يفهمها الكثيرون، التي تذكرني بانفعال مانويل فالس رئيس الوزراء، في مؤتمره بعد ضحايا شارل إيبدو والمتجر اليهودي منذ شهور، أنه لا يريد ليهودي أن يكون خائفا على أرض فرنسا، ولا مسلما محرجا على أرض فرنسا، وأن علينا جميعا أن نتعامل كفرنسيين، إن أخطر ما يهدد فرنسا في الواقع ليس الإرهاب في حد ذاته، وإنما الحرب الأهلية التي ربما تنشب إن استفزت مشاعر الستة ملايين العرب والمسلمين بها.

هذا وقد كان التناول الإعلامي للأزمة على مستوى المسئولية؛ حيث لم يسيئوا إلى المسلمين كما يتصور من يصدقوا الشائعات بحرق القرآن على قناة تليفزيونية على الهواء، وإنما أكملوا مسيرة رئيسهم بالتشديد على التوحد والتعامل مع المسلمين على أرض فرنسا كضحايا ليس لهم ذنب.

وليس معنى هذا أنه لن تندلع مظاهرات من وقت لآخر من قبل اليمين المتطرف المتواجد في كل بلاد العالم ضد المسلمين، فكلنا نذكر الدكتورة كاميليا المحجبة التي قتلت في المحكمة على يد متطرف بألمانيا، وهذا ما دفع بعض المحجبات بباريس لخلع الحجاب؛ حتى لا يقعن ضحية لمجنون يكره المسلمين، وهذا لا يمنع أيضا أن فكرة طرد العرب لن تكون سهلة، بل تكاد تكون مستحيلة التنفيذ؛ لما لفرنسا من احترام قوي جدا لحقوق الإنسان، ولما للواقع العربي من جذور متوغلة على أرضها، وربما يقع الضرر الأكبر على من لهم أوضاع غير قانونية، وهذا لا يمنع أيضا نظرات الفتور والاتهامات التي أصبحت تحاصرنا أينما ذهبنا، التي أجدها بشكل شخصي، الأكثر إيلاما من الصراخ بوجوهنا بمكنون صدورهم، وأيضا أعمال وتجارة العرب التي ستتأثر كثيرا في الفترة القادمة والنظرة السلبية المعممة للإسلام.
الجريدة الرسمية