رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

دولة الرسول.. مدنية

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

هناك من يعتقد أن دولة النبي صلى الله عليه وسلم كانت دولة دينية، أي أنها دولة ثيوقراطية يحكم الحاكم فيها باسم الله، أي أن ما يحكم به هو حكم الله، وهي بهذه الصورة دولة بلا قانون، بل تسير على هوى الحاكم، ويدعى الحاكم أن هذا الهوى هو إرادة الله عز وجل كما يريد المتمسحون بالدين أن يوهموا العامة والبسطاء.


ولكن الوقع أن دولة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تقوم على الرحمة والرفق، وعلى العدل والمساواة في الحقوق والواجبات، وعلى مساواة الحاكم بالمحكوم، وعلى الشورى والحرية، وعلى العدالة الاجتماعية، وهى دولة مؤسسات؛ فهى دولة كدولة الرسول – صلى الله عليه وسلم - غير أن الذي يحكم ليس معصومًا كالرسول – صلى الله عليه وسلم.

ويوضح ذلك الكاتب نزار حيدر في مقال له بعنوان «دولة المدينة.. مدنية» يقول فيها «بكلمة واحدة يمكننا القول بأن (دولة المدينة) - يقصد دولة النبى صلى الله عليه وسلم في المدينة - قامت على أساس الآية الكريمة التي وصف فيها رب العزة رسوله الكريم بقوله عز من قائل {وإنك لعلى خلق عظيم} وبالتأسيس على قوله صلى الله عليه وسلم { إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق} ولقد غطت أخلاق الرسول الكريم كل مناحى الحياة، السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية وغيرها».

و«لو تصفحنا أوراق التاريخ المتعلق بـ(دولة المدينة) لرأينا أنها قامت على منظومة من هذه الاخلاق التي تحدث عنها القرآن الكريم ورسول الله والتي تقف على رأسها:

أولا: العلم، فهى دولة علمية تعتمد العلم في التخطيط والتنفيذ والتطوير على مختلف الأصعدة، السياسية والعمرانية والإدارية والاقتصادية وغيرها، كما أنها تعتمد العلم في وضع الرجل المناسب في المكان المناسب.

إنها دولة اعتمدت العلم كأساس، فرفضت الجهل والتجهيل والتضليل، كما رفضت الخرافات والخزعبلات وثقافة الأحلام وغير ذلك من الأمور التي تبقى المجتمع جاهلا لا يفقه أو يفهم شيئا.

ولقد وردت العديد من آيات القرآن الكريم تتحدث عن البعد العلمى في الرسالة المحمدية كما في قوله تعالى {ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} وقوله {واتقوا الله ويعلمكم الله} وقوله {ويعلمك من تأويل الأحاديث} وقوله {ن والقلم وما يسطرون} وهو قسم بأقدس أدوات العلم.

أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال بهذا الصدد {طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة}.

ثانيا: الصدق والإخلاص، فبالصدق يعبد الإنسان ربه وبالإخلاص يصدق مع ربه ونفسه والناس جميعا، ولذلك فليس غريبا أن كان عرب الجاهلية ينعتون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بـ{الصادق الأمين} لشدة صدقه وإخلاصه فيما ينجز، ليس مع الله فحسب، وإنما حتى مع غير المسلم.

إن (دولة المدينة) قامت على أساس الصدق، الذي يعنى أن يتعامل الحاكم بوضوح وشفافية وإخلاص مع كل رعايا الدولة، بغض النظر عن دينهم وإثنيتهم وأصلهم، فلا يؤثر نفسه على الآخرين ولا يميز أقاربه عن الباقين من الناس، ولا يقدم شرار خلقه على خيار خلق آخرين.

إن المجتمع الصادق والمخلص يكون قريبا من إقامة سلطة الحق والعدل، والعكس هو الصحيح، فالمجتمع الذي يغرق في الكذب والدجل والتزوير والغش والفساد والنفاق يفشل في تحقيق العدل حتى بأبسط صوره.

ثالثا: حق الناس أولا، ففي (دولة المدينة) لكل امرئ حق فيها، بغض النظر عن دينه ومذهبه وإثنيته، فحقوق الرعية واجبة على الراعي، كائنا من كانت الرعية، ولا يطمئن الناس على حقوقهم إلا إذا عمل الحاكم على تطبيق القانون على نفسه أولا، وعلى الأقربين منه، وإلا فما فائدة أن يطبق الحاكم القانون على الناس، الفقراء والبسطاء والضعفاء، فيما يفلت الأقوياء من جماعته من سلطة القانون؟ لذلك حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يطبق القانون، الشريعة هنا، على نفسه أولا.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفض الشفاعة في تنفيذ القانون للصالح العام، فلقد جيء إليه بالمرأة المخزومية التي سرقت ليقيم عليها الحد، فأراد بعض الصحابة أن يشفعوا لها لأنها حديثة عهد بالإسلام، وأرسلوا إليه أسامة بن زيد في ذلك فغضب النبى وقال له:

«إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».

لقد فسدت مجتمعاتنا (الإسلامية) لأن الحاكم وزبانيته وقبيلته ومحازبيه فوق القانون، فيما يسحق هذا القانون الضعفاء والمساكين إذا سرق أحدهم لقمة أراد أن يطعم بها صغاره الذين يتضورون جوعا كل ليلة قبل أن يخلدوا إلى النوم، فأى حق يقيمه مثل هذا المجتمع؟ وأى عدل؟

رابعا: التسامح، ونبذ العنف والإرهاب وسياسات الفرض والإكراه والجبر، فالرسول الكريم كان مذكرا من قبل الله تعالى وليس مسيطرا، أولم يقل رب العزة في كتابه الكريم {إنما أنت مذكر - لست عليهم بمسيطر}؟ لأن السيطرة خلاف الحرية، وإن العبودية خلاف المسئولية، ولذلك لم يجبر رسول الله أحدا على الإسلام طوال حياته، كما يذكر ذلك المرجع المحقق آية الله العظمى السيد صادق الحسينى الشيرازي.

انتهى كلام نزار حيدر الكاتب العراقي، ولكن بقى أن نقول إن أوضح دليل على مدنية دولة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة هي «صحيفة المدينة» أو «وثيقة المدينة» التي وضعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد حرص على تسطيرها وكتابتها، لتؤسس للعيش المشترك بين مواطنى «دولة المدينة» الناشئة التي أقامها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتولّى إدارة شئونها وقيادتها. بعد هجرته - صلى الله عليه وسلم - إلى يثرب، غيّر اسمها إلى «المدينة» وآخى بين المهاجرين والأنصار على اختلاف قبائلهم وتعدد عشائرهم، ثم أقام دولة مستقلة.

ومن هنا فقد جاءت وثيقة المدينة الدستورية لتعلن أسس ومبادئ حكم الدولة، وواجبات مواطنيها، والعلاقة بينهم وبين رئاسة الدولة - متمثلة في الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكل ما لهم وما عليهم من حقوق وواجبات دستورية.

والاطلاع على هذه الوثيقة يوقفنا على نص دستوري لا نعرف في تاريخ الفكر الإنسانى قبله نصًّا يشبهه في التأسيس للعيش المشترك بين مواطنى دولة ناشئة يحملون كل أشكال الاختلاف وصنوف التعدد. ومن هذه القيم الإقرار بمبدأ التعددية - بكل تجلياتها - والقبول بالآخر المختلف دينيًّا وعرقيًّا وثقافيًّا، أي القبول بحق كل منّا في الوجود.

أقرّت الوثيقة أن «يهود بني عوف أمة مع المؤمنين»، وهذا ليس حقًّا ليهود بني عوف وحدهم، ولكنه حق كذلك ليهود بنى النجار، ويهود بني الحارث، ويهود بنى ساعدة، ويهود بنى جشم، ويهود بنى ثعلبة، ويهود بنى الأوس، ويهود جفنة، ويهود بنى الشُّطيبة، بل هو حق لبطانة اليهود فضلًا عن بطونهم ومواليهم.

حرصت الوثيقة على تأسيس هذا المبدأ المهم وتوضيحه لجميع المواطنين، وهو أن المسلمين واليهود في المدينة دولة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمّة واحدة: «وإن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ (أي لا يهلك) إلا نفسه وأهل بيته».

ولقد جاء تأكيد إقرار الإسلام بالتعددية الدينية في الوثيقة: «لليهود دينهم وللمسلمين دينهم»، ومع ذلك هم أمة واحدة سياسيًّا ودستوريًّا وإن كان لكلٍّ دينه الذي يختص به.

لا تتحدث الوثيقة وهي تضع الأسس الدستورية للحكم في دولة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، إلا عن المبادئ الكلية والمقاصد العليا للشريعة الإسلامية، ولا تتوقف الصحيفة عند الفروع والجزئيات والظنيات والأحكام التفصيلية الاجتهادية التي ستتغير مع تغير الزمان والأحوال والمواقف.

الصحيفة تقرر مبدأ حرية الاعتقاد والتدين: «لليهود دينهم وللمسلمين دينهم»، فلا إكراه ولا سيطرة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو الحاكم الشرعي للدولة عليهم، فحرية الاعتقاد مكفولة بنص الصحيفة لجميع المواطنين في دولة المدينة.

وقد أوضحت وثيقة المدينة أن العدل في باب القضاء أساسٌ عظيم لضمان تعايش المواطنين في الدولة، «وأنه من اعتبط مؤمنًا قتْلًا عن بينة (أي من قتل بغير جرم)، فإنه قود به (أي يقتل القاتل قصاصًا) إلا أن يرضى وليّ المقتول (بالعقل)، (أي بالدية)». وتفرض الوثيقة على الجميع أن يكونوا ضد الظالم يدًا واحدة، وأنه لا يحل لهم إلا أن ينصروا المظلومين ضد الظالمين «وأن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا القيام عليه».

ومنه أن الوثيقة قد شرّعت لمبدأ قضائى مهمٍّ، وهو عدم نصرة المجرمين الآثمين وعدم إيوائهم والتستر عليهم، لأن في ذلك منعًا أو تعطيلًا للعدالة أن تأخذ مجراها «وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدِثًا (أي مرتكب جريمة) أو يُؤويه»، وتتوعد الصحيفة من يفعل ذلك «وأن مَن نصَرَه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه عدل (أي فداء) ولا صرف (أي توبة).

كما تقرر الصحيفة لمبدأ قضائى عدليّ حكيم، وهو أن المسئولية الجنائية فرديةٌ، وبالتالى فإن العقوبة عليها لا بد وأن تكون شخصية خاصة بمن ارتكب الجريمة، ولا يسد أحد مسده في تحمل العقوبة بدلًا منه، قررت الوثيقة ذلك في أكثر من فقرة منها: «إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ (أي يهلك) إلا نفسه وأهل بيته»، «وأنه من فتك فبنفسه فتك وبأهل بيته»، «وأنه لا يأثم امرءٌ بحليفه»؛ أي إنْ ارتكب حليفه جرمًا يستوجب عقوبة قضائية.

«لا يكسب كاسب إلا على نفسه»؛ وهذا هو التغيير الهائل الذي أحدثه الإسلام عمومًا وهذه الوثيقة خصوصًا في تقرير مبدأ «المسئولية الفردية»، وقد وضح القرآن هذا في آيات عدة منها: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (فاطر:18)، (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور:21).

من أخلاقيات التعايش المشترك التي حضّت عليها الوثيقة، ودفعت المواطنين في الدولة «المدنية» دفعًا لممارستها واعتبارها خُلُق التناصر والتناصح والبر دون الإثم. وأسست الصحيفة لمبدأ وجوبيةِ نصرةِ المظلوم على الجميع: «وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وأن النّصر للمظلوم».

ولقد حرصت الوثيقة على أن التعامل بالمعروف والفضل، يساعد على العيش المشترك، وأكدت عليه في غير ما فقرة «وأن البرّ دون الإثم»، «بالمعروف والقسط»، «إلا على سواء وعدل بينهم».

وتجعل الوثيقة حق الجار من حق النفس: «وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم»، «وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها»، حق الجار أن يستأذن جاره أو أن يتشاور معه في ما له علاقة بجوارهم المشترك، «وأنه من يتبعنا من يهود، فإن له النصرة والأسوة (أي المساواة في حقوق المواطنة) غير مظلومين ولا متناصرين».

ومن مبادئ العيش المشترك التي أسست لها هذه الوثيقة الدستورية، أن الشعب الواحد في الدولة يمكن أن يتكون من مجموعات دينية وعرقية وثقافية متعددة، ويتشارك الجميع - والحالُ هذه - في المواطنة ويتساوون في حقوقها وتحمّل واجباتها المالية والدفاعية، وتسودهم قوانين عدلية واحدة، وتكون المسئولية الجنائية فردية وعليه فالعقوبة تكون شخصية، ويتشاركون في ممارسة مكارم الأخلاق من البر والمعروف وحسن الجوار ورعاية واجباته، أي أن هناك حقوقًا وواجبات دستوريةً سياسية واقتصادية وعسكرية وسلوكية... يستوى فيها جميع المواطنين مهما تعددت مجموعاتهم واختلفت عقائدهم.

وتعطى الصحيفة الحق لكل جماعة بأن تنفرد ببعض الممارسات الخاصة التي تتعلق بالجماعة ولا تتعارض مع الحقوق والواجبات العامة لجميع المواطنين.

نلاحظ أن الصحيفة تحدثت عن جماعة المؤمنين المسلمين من المهاجرين والأنصار، وتحدثت عن اليهود على تعدد قبائلهم وبطونهم وحلفائهم وتحدثت عن العام والخاص، بحيث لا يتعارض ما هو للفرد بحسبانه مواطنًا في دولة مع ما هو له بحسبانه فردًا في جماعة (دينية أو عرقية) داخل هذه الدولة، بينت الوثيقة ذلك بيانًا مهمًّا يحترم الهوية الخاصة بكل جماعة داخل الهوية العامة للدولة ككل، فقد خصت الوثيقة المسلمين بأشياء، وخصت اليهود بأشياء، وألزمت الجميع بأشياء دونما تعارض أو تناقض.

وقد رأينا في الصحيفة أن العدل، والمساواة، والحرية، والبر والمعروف، وبمقارنة ما تضنشه عليه تلك الوثيقة وما تفعله الأحزاب الدينية في مصر يتبين أن الفرق بينهما شاسع وان الإسلام يتعرض بسببهم لظلم شديد.
Advertisements
الجريدة الرسمية