فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

المواقف أصدق من الكلام!

مع اقتراب العام من نهايته تبقى الدروس والعبر، وتتداعى للذاكرة ذكريات شهور مرت في ظاهرها كلمح البصر، غير أنها في حقيقتها محطات اختبار كبرى، تُمتحَن فيها القلوب وتُغربَل فيها العلاقات، فتسقط الأقنعة، وتنكشف المعادن، ويُعاد تعريف الإنسان للإنسان. 

 

فالزمن لا يصنع التغيّر بقدر ما يكشفه، ولا يخلق الخذلان بل يميط اللثام عنه. وما أكثر ما أدركنا، بعد فوات الأوان، أن كثيرًا ممن أحاطوا بنا لم يكونوا كما ظننّا، وأن الوفاء عملة نادرة في زمنٍ كَثُر فيه الادعاء وقَلّ فيه الصدق.

 

وهنا يفرض السؤال نفسه: ما جدوى الحياة إذا فُقد فيها الوفاء، وتآكل الحب، وغاب الإخلاص، وانفرط عقد التعاون بين البشر؟ أيّ معنى للوجود إذا تحوّلت العلاقات إلى مصالح عابرة، وصار الإنسان ذئبًا لأخيه الإنسان، لا يرى فيه إلا وسيلة أو عبئًا؟ 

 

لقد جاءت الرسالات السماوية، وفي مقدّمتها الإسلام، لتؤسس حياةً قوامها القيم، لا الصراعات، ولتربط بين الإيمان وحسن المعاملة، فقال الله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، وقال أيضًا: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، فجعل الأخوّة أصلًا، لا ترفًا، ومنهجًا لا شعارًا.

 

غير أن الواقع الإنساني اليوم يشهد انقلابًا مقلقًا؛ صراعات لا تنتهي، وحروب تُبرَّر بشعارات جوفاء، ونزاعات تُغذّيها الأهواء والمطامع. فماذا جنت الإنسانية من الصراعات إلا الشقاء والتعاسة؟ كم حضارة سقطت لأنها افتقدت العدل، وكم أمة تمزّقت لأنها فرّطت في قيمة الرحمة؟ 

لقد لخّص النبي ﷺ هذه الحقيقة حين قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه»، فربط كمال الإيمان بسلامة الصدر، ونقاء القلب، وحضور المحبة الصادقة.


وتعلّمنا التجربة، كما علّمتنا النصوص، أن الكلمات مهما بلغت بلاغتها تبقى خاوية إن لم تسندها الأفعال. فالله سبحانه لم يجعل معيار التفاضل كثرة الادعاء، بل صدق العمل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾. ومن هنا كانت المواقف هي الميزان الحقيقي للناس، تكشف من يصمد في العسر قبل اليسر، ومن يحضر عند الحاجة لا عند المصلحة.

 

إن وداع الشهور الماضية ليس وداع زمنٍ فحسب، بل وداع أوهامٍ كنا نعيشها، وأشخاصٍ لم يكونوا على قدر الثقة. نودّعها وقد تركت فينا جراحًا، لكنها جراح واعية، تُنضج ولا تُحطّم، وتعلّم ولا تُفسد. ووسط هذا كله، لا نملك إلا أن نلجأ إلى الدعاء، وفاءً لمن رحلوا: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾، وأملًا لمن بقوا، بأن تكون أيامهم أصفى، وقلوبهم أسلم.

وفي الختام، يبقى السؤال مفتوحًا أمام كل إنسان: هل نريد حياة ينجو فيها الفرد وحده، أم حياة ينجو فيها الجميع بالتراحم والتعاون؟ فالحياة بلا حب قسوة، وبلا وفاء خواء، وبلا إخلاص صراع دائم. أما القيم، وإن بدت اليوم مُكلفة، فهي وحدها القادرة على إنقاذ الإنسان من إنسانيته الجريحة، وردّ المعنى إلى وجودٍ أنهكته الصراعات وأتعبه النسيان.