معضلة أحمد الشرع
لم يكن تصريح الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع عن أنّ مصر ليست مثل السعودية وقطر وتركيا في “التطور”، مجرد جملة عابرة أو زلة لسان. كما لم يكن تصريحه الأخير بأن علاقة سوريا بالسعودية وقطر وتركيا مثالية، بينما العلاقة مع مصر “مقبولة.. ماشي الحال”، مجرد توصيف يفتقد للدقة والدبلوماسية.
ما قاله الشرع يشي بما هو أعمق: أزمة في الرؤية، واضطراب في تقدير موازين الإقليم، ومحاولة لإعادة هندسة موقع سوريا الجديد بمعزل عن أهم دولة ارتبطت استراتيجيًا ببلاده منذ فجر التاريخ، وبالتالي فإن حديثه جاء بلا أي اتساق سياسي ولا تاريخي ولا دبلوماسي.
الرئيس الانتقالي -بطبيعته- لا يملك ترف إطلاق أحكام نهائية ولا تبنّي خطاب استعلائي حيال دولة كبرى مثل مصر، المرحلة الانتقالية تقوم على استعادة الثقة، وبناء الشرعية، ومد الجسور مع محيط عربي كانت سوريا جزءًا عضويًا من نسيجه قبل أن تتفكك الجغرافيا السياسية تحت نار الحرب.
لكنّ الشرع بدا ـ في لحظة التصريحين كمن يحسم ما لا يجوز حسمه، ويقطع ما لا ينبغي قطعه، ويستدعي مقارنات لا تؤدي إلا إلى توتير غير ضروري مع دولة تمثل ركيزة أساسية في أي معادلة شرق أوسطية، شاء من شاء وأبى من أبى.
القول إن مصر ليست كالسعودية أو قطر أو تركيا في “التطور” ينتمي إلى خطاب لا يليق برئيس انتقالي، ولا يليق بقراءة سياسية جادة، مصر ليست دولة تُختزل في مؤشرات ناطحات السحاب أو حجم الاستثمارات وحدهما، بل هي دولة لها وزن سياسي إقليمي يستعصي على التهميش، شعبها كبير ومتجانس، جيشها قوي، ودبلوماسيتها عريقة، وموقعها الجيواستراتيجي لا يملك أي زعيم رفاهية تجاهله.
العلاقة مع مصر ليست رفاهية، ولا هامشًا يمكن التساهل فيه، بل هي ركن في معادلة الأمن القومي العربي، وفي معادلة سوريا نفسها، التي لن تكتمل استعادتها لتوزانها ووزنها من دون القاهرة.
كيف ينتقل الشرع من تصوير مصر كدولة أقل تطورًا، إلى القول بأن علاقات سوريا مع السعودية وقطر وتركيا مثالية؟ وما معنى مثالية في قاموس العلاقات الدولية؟
العلاقات الدولية لا تعرف المثاليات.. تعرف المصالح، وتوازنات القوى، والمواءمة بين الضرورات والاختلافات، وما ينبغي أن تسعى له سوريا اليوم هو إعادة إدماج لا اصطفاف جديد، وتوازن لا تبعية، وعودة ذكية لا اندفاع في أحضان أي محور.
أما وضع مصر في خانة “ماشي الحال” فهو يكشف خللًا في ترتيب الأولويات أو سوء تقدير لتقاطعات القاهرة في الملف السوري، التي تبقى أكثر عمقًا من لغة المجاملات المباشرة ومن الاختلافات السياسية، خاصة مع ما تعانيه سوريا من انتهاك مجالها الجوي وأرضها من جانب الاحتلال الإسرائيلي بشكل لا مثيل له في التاريخ الحديث.
من يريد أن يؤسّس لشرعية انتقالية في بلد جُرّب فيه كل شيء، يحتاج إلى خطاب رصين، واقعي، غير انفعالي، وغير محكوم بسياسات اللحظة.. سوريا الخارجة من حرب طويلة تحتاج إلى بناء الثقة مع الجميع، احترام مكانة مصر دون الدخول في مقارنات فارغة، إبقاء الباب مفتوحًا مع القاهرة باعتبارها رافعة لاستقرار سوريا مستقبلًا.
خطاب الشرع، بتناقضاته، لا يخدم هذه الرؤية. بل يمنح الانطباع بأن سوريا الانتقالية تنجرف نحو اصطفاف إقليمي جديد، كما يُعبّر عن اضطراب في فهم طبيعة الدور المصري الذي لا يعمل بالضجيج بل بحسابات ثقيلة.
معضلة الشرع ليست في رأيه، بل في أن رأيه جاء بمنطق الانتقاد لا البناء، وبلغة جافة لا بلغة دبلوماسية تحسب لميزان المصلحة الوطنية حساباته لا ميزان المزاج السياسي.. أما مصر، فهي أكبر من أن يحدد وزنها تصريح، وأعمق من أن تختزل في كلمة “ماشي الحال”.