فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

ذكاء اصطناعي أم ذكاء أخلاقي؟! (1)

السؤال الذي يفرض نفسه ليس عن مستقبل التكنولوجيا، بل عن مستقبل الأخلاق.. فالأزمات التي يعيشها الإنسان المعاصر لا تبدو نتاج نقص في المعلومات أو فقر في التعليم، بقدر ما تبدو نتيجة مباشرة لغياب البوصلة الأخلاقية التي تحكم السلوك وتضبط القرارات. 

إننا لسنا في أزمة جهل معرفي بقدر ما نحن في أزمة جهل أخلاقي وفقر روحي، أزمة ضمير يتراجع حضوره كلما اشتد التنافس على المكاسب المادية واتسعت مساحة الصراع السياسي والاقتصادي.


إنسان اليوم يعيش مفارقة حادّة لم يعرفها في أي مرحلة سابقة، كلما ازدادت معارفه تضاعفت أزماته، وكلما تقدّم علميًا وتقنيًا، ازداد اضطرابًا وقلقًا وارتباكًا في إدارة حياته اليومية. فقد وصلت الإنسانية إلى ذرى معرفية غير مسبوقة، وأصبح الذكاء الاصطناعي شريكًا في التفكير واتخاذ القرار، ومع ذلك لم تستطع البشرية أن تجد طريقًا واضحًا نحو السعادة أو السلام. بل إن الشعور العام يوحي بأن العالم يتقدم في كل شيء إلا في قدرته على أن يكون أكثر إنسانية.

ورغم أن العالم أنشأ آلاف المدارس والجامعات، وأنتج تخصصات دقيقة في كل مجالات الحياة، ظلت مسألة تكوين الضمير خارج إطار الاهتمام الحقيقي. فالمؤسسات الأكاديمية تنجح في صناعة العقول، لكنها تفشل في صناعة الوعي الأخلاقي الذي يمنح تلك العقول اتجاهًا وقيمة. 

لذلك بتنا نرى الطبيب القادر على التلاعب بآلام الناس، والفقيه القادر على تبرير الفساد، والسياسي القادر على تزييف الوعي باسم الوطنية والمصلحة العامة. إنها صور متكررة لما يمكن تسميته العمى الأخلاقي، وهو عمى لا يُقاس بدرجة الثقافة، بل بمدى قدرة الفرد على التمييز بين الحق والمصلحة، وبين الواجب والرغبة.

هذه المعضلة لا تقف عند حدود الفرد، بل تمتد إلى المنظومات الكبرى التي تدير العالم. فمن دون ضمير، تتحول التكنولوجيا إلى سلاح يفاقم الأزمات بدل أن يحلها، وتتحول الديمقراطية إلى صراع نفوذ، ويتحوّل الاقتصاد إلى سباق لا يعترف بالخاسرين. وعندما يغيب الضمير الجماعي، يصبح العالم أشبه بغابة تحكمها القوة وحدها، وينهار أي شكل من أشكال العدالة مهما تعددت المؤسسات والقوانين.

إن استعادة الضمير ليست ترفًا فكريًا ولا مشروعًا مثاليًا كما قد يظن البعض، بل ضرورة وجودية لضمان بقاء الإنسان نفسه. فالتقدم الحقيقي يبدأ عندما يصبح العلم في خدمة القيم لا في منافستها، وعندما تتكامل المعرفة مع الأخلاق لتصنع إنسانًا يملك القدرة على تحقيق النجاح دون أن يفقد إنسانيته، وعلى بناء حضارة دون أن يدفع ثمنها الضعفاء والمهمَّشون.

ما يحتاجه العالم اليوم ليس مزيدًا من الشهادات العلمية ولا مزيدًا من التقنيات المتطورة، بل إعادة تأسيس الوعي الأخلاقي كجزء من المشروع الحضاري للقرن الحادي والعشرين. فترميم الضمير هو الشرط الأول لوقف الحروب، وإنهاء الصراعات على المكاسب الزائلة، وفتح أفق جديد للتعاون البشري الذي يعيد للإنسان قدرته على عمارة الأرض دون ظلم ولا أطماع.

وبينما يتساءل العالم عن مستقبل الذكاء الاصطناعي، يبقى السؤال الأهم: هل نملك الذكاء الأخلاقي الذي يسمح لنا باستخدام ما اخترعناه لخدمة الإنسان لا للهيمنة عليه؟ الإجابة عن هذا السؤال هي التي ستحدد، في النهاية، ما إذا كان الإنسان المعاصر قادرًا على الخروج من أزماته، أم أنه سيستمر في الدوران في حلقة مفرغة مهما بلغت معرفته وتطورت أدواته.