أين صوت الناس في لجان الشيوخ!
المال لا يطرق باب السياسة عبثًا، يدخل دائمًا باشتراطاته، يفرض الأولويات ويعيد ترتيب الأدوار. حين يكون رجل الأعمال نائبًا، نسمع كثيرًا عن تسهيلات واستثمارات ومزايا، ونسمع أقل عن حماية المستهلك، وتطوير الصحة والتعليم، وضمان العدالة للطبقات التي لا تملك سوى أصواتها.
الخطر لا يكمن في وجود رجال الأعمال بحد ذاته، بل في غياب التوازن، حين يميل الميزان كله ناحية أصحاب الأموال، وتختفي الوجوه القادرة على الدفاع عن أصحاب الحقوق الضائعة.
ما نراه في تشكيل لجان مجلس الشيوخ يجسد بوضوح كيف صعد المال على أكتاف السياسة وحين تتزوج الثروة بالسلطة، تتغير قواعد اللعبة كلها. السياسة التي وُجدت لتكون صوت الناس تتحول تدريجيًا إلى مشروع استثماري، تُقاس قيمته بما يملكه اللاعبون من نفوذ ومال، لا بما يحملونه من أفكار ورؤى.
في مصر، يبدو أن هذه الزيجة لم تعد خفية، بل أصبحت واقعًا ماثلًا في تشكيل المجالس النيابية، خصوصًا حين يجلس رجال الأعمال على مقاعد رئاسة اللجان، ليصبح السؤال: من يمثل من؟ ومن يخدم من؟
في اللحظة التي يتراجع فيها السياسي الحقيقي ويجلس رجل الأعمال في المقاعد الأمامية، يتبدل تعريف المصلحة الوطنية. تصبح القوانين مرسومة تحت ضغط الربح قبل مصلحة الوطن. وتُدار ملفات حساسة مثل الضرائب، والأراضي، والدعم، والعمالة، باعتبارها أرقامًا في ميزانيات الشركات، لا حقوقًا لملايين ينتظرون العدل.
الأكثر إيلامًا أن بعض النخب الاقتصادية تريد من المواطن أن يصفق لها لأنها تمنحه الفتات، بينما تضع يدها على الموارد والاستثناءات، ثم تُنصّب نفسها ممثلًا عنه داخل المؤسسة التشريعية. أي عبث سياسي هذا الذي يجعل الصوت الشعبي مجرد ديكور، بينما القرار الفعلي يُصنع وراء أبواب رأس المال؟
ليس مقبولًا أن تتحول القبة إلى مجلس إدارة دولة، يمرر ما يجب أن يناقش، ويصمت عمّا يجب أن يهز الأرض تحت أقدام الفاسدين. ليس معقولًا أن ننتظر من نائب لا يعرف أكشاك الخبز ولا طوابير المستشفيات أن يناقش قانون التأمين الصحي أو الحد الأدنى للأجور.
السياسة ليست شطارة في عقد الصفقات، السياسة امتحان يومي للضمير، وقدرة على قول “لا” حين يصبح “نعم” أسهل المواقف وأكثرها مكسبًا.
في الذاكرة القريبة، عرفنا مجلس شورى كان في عهد صفوت الشريف يقدم دراسات معتبرة، يناقش ويقترح، ويرسل لمجلس الشعب ما يستحق النظر. لكل زمن ملاحظاته ومآخذه، لكن الحقيقة أن المجلس آنذاك كان بمثابة عقل موازٍ يحاول ممارسة الدور الذي أُنشئ من أجله.
كان لرئاسة المجلس وزن، وللشخصيات حضور، وللنقاشات أثر. اليوم، يتساءل الناس: هل تعود قيمة المجلس من جديد إلى شخصية من يقوده؟ وهل نستطيع أن نرى على مقاعده عقولا سياسية حقيقية، لا وجوها استثمارية صامتة؟
الانتخابات كانت زمان تصنع رجالًا. التنافس يخلق شرعية، والشارع يمنح الوزن. كانت اليفط والصوانات أصواتًا صريحة تخبرك أن هناك معركة دائرة. اليوم، خفت الضجيج، ليس لأن السياسة تهذبت، بل لأن التنافس انطفأ.
القوائم تفتح أبوابها وتعلن: الجميع ناجح قبل الاقتراع. الناخب يحضر المسرح ليصفق في مشهد نُفذ مسبقًا. والمرشح لا يحتاج إلا أن يكون في المكان الصحيح داخل قائمة مغلقة، ليضمن مقعده دون أن يخوض اختبار الشارع.
السؤال الأخطر هنا ليس: ماذا يحدث؟ بل: ماذا نخسر؟ نخسر السياسة نفسها، نخسر التنوع، نخسر قدرة الرقابة، نخسر صوت الناس الذي يفترض أنه مصدر شرعية كل من يجلس تحت القبة. حين يصبح المجلس مرآة لمصالح رأس المال فقط، تتحول الرقابة إلى مجاملة، وتتحول التشريعات إلى خدمات خاصة، وتتحول السلطة التشريعية إلى ملحق أنيق في دفتر الاقتصاد.
هذا الوطن لن يقف على قدمين ما لم تتوازن كفتا الميزان: كفة الاستثمار وكفة العدالة. الأغنياء لهم مكانهم الطبيعي في الاقتصاد، لكن صوت البرلمان يجب أن يأتي من الناس ولهم. المقعد الذي يُشترى لا يستطيع أن يرفع كلمة حق، والنائب الذي لم يختبر ثقة الشارع لن يعرف قيمة الدفاع عن أبنائه.
المال يستطيع أن يمدّ الجسور، لكن السياسة وحدها تبني وطنًا. والأوطان لا تُدار بالشيكات وحدها، بل تُصان بضمائر حية تعرف أن السلطة تكليف، وأن الإرادة الشعبية ليست بندًا يمكن التفاوض عليه.