عيد الصليب.. قوة المسيحيين
يحتفل قلب الكنيسة هذه الأيام بعيد الصليب، العلامة التي بها غُلب الموت، وبها أُعلن الخلاص، وبها صار العار مجدًا والخزي كرامة. وفي هذا العيد، تتردّد كلمات الرسول بولس في أعماقنا: "حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ" (غل ٦: ١٤).
هنا يعلن الرسول أن الصليب ليس مجرد خشبة ولا رمزًا للألم، بل هو سرّ الافتخار الحقيقي، لأنه صار باب الحياة الجديدة، وبداية الطريق نحو القيامة.
في منطق العالم، الصليب علامة ضعف وهزيمة، لكنه في منطق الإيمان هو قوّة الله للخلاص. لقد ارتضى الكلمة الأزلي أن يدخل إلى آلامنا البشرية، ويشاركنا ضعفنا، لكي يرفع عنا حكم الموت ويحوّل اللعنة إلى بركة.
وهنا تشرق كلمات القديس أثناسيوس الرسولي الذي قال في كتابه تجسد الكلمة: "ولأن كلمة الله هو فوق الجميع، فقد كان لائقًا أن يقدم هيكله الخاص وأداته البشرية فدية عن حياة الجميع، موفيًا دين الجميع بموته."
في هذا القول العميق نفهم أن الصليب لم يكن حادثة عابرة، بل خطة إلهية عجيبة، فيها قدّم المسيح جسده الخاص، الذي اتخذه من العذراء مريم، فدية كاملة عن البشرية كلها.
كل إنسان يحمل داخله دين الخطية، دينًا لا يمكن أن يسدّده بجهده الشخصي أو بتقواه الذاتية. وحده ابن الله المتجسد، الذي بلا خطية، استطاع أن يقدم حياته عوضًا عن الجميع، وبموته وفّى الدين، وبقيامته منحنا برًّا جديدًا. هكذا صار الصليب ليس فقط خشبة العقاب، بل مذبح الذبيحة، الذي فيه التقت عدالة الله برحمته، وبه صار لنا خلاص أبدي.
لكن الصليب ليس حدثًا تاريخيًا فقط نحتفل بذكراه، بل هو طريق حياة. أن نفتخر بالصليب يعني أن نعيش في روح الصليب بمعنى أن نصلب أهواءنا وشهواتنا، أن نحيا من أجل الله لا من أجل العالم، وأن نقبل الضيق من أجل الحق بفرح داخلي.
يقول الرسول بولس: "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ." (غل ٢: ٢٠). فكل من يرفع عينيه إلى الصليب، يجد فيه القوة ليقاوم الخطيئة، والنور ليسير في الطريق الضيق، والرجاء ليحيا بالإيمان وسط آلام الحياة.
واليوم، ونحن نحتفل بعيد الصليب، فلنرفع قلوبنا شاكرين، لأن الرب لم يتركنا عبيدًا للموت، بل اشترانا بدم كريم كما من حمل بلا عيب. ولنفتخر بالصليب، لا بالكلام فقط، بل بالحياة اليومية التي تحمل روح البذل، والعطاء، والتواضع، والثبات في الإيمان. الصليب هو علامة المحبة الكاملة، لذلك من يعيشه بحق، يصير حياته شهادة حيّة أن الله أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد.
فلنلتصق إذن بالصليب، ولنجعل منه فخرنا الدائم، لأنه هو قوتنا وسلاحنا وعلامة رجائنا، وبه صُلب العالم لنا ونحن للعالم، لكي نحيا للمسيح وحده الذي أحبنا وأسلم نفسه عنا.