الضيقة وبداية الطريق
عندما نسمع كلمة ضيقة، يتبادر إلى أذهاننا الألم، والمعاناة، والظروف الصعبة التي تثقل القلب. وقد نظن أن الضيقة هي نهاية الطريق، أو علامة على أن الله قد ابتعد عنا. لكن الحقيقة الروحية التي تعلّمنا إياها الكنيسة والكتاب المقدس هي أن كل ضيقة تحمل في أعماقها بركة مخفية، تنتظر أن يفتح الله عيوننا لنكتشفها. فالضيقة قد تكون طريقًا لتطهير القلب، أو وسيلة لنيل نعمة جديدة، أو بابًا مغلقًا يفتحنا على طريق أفضل.
الضيقة ليست عشوائية، بل هي تحت يد الله الكاملة. فالكتاب يقول: "كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله" (رو ٨: ٢٨). قد لا نفهم هذا الخير في لحظته، لكن بالإيمان نثق أن وراء الأحداث المؤلمة قصدًا إلهيًا أعظم. أحيانًا يسمح الله أن تنكسر أواني حياتنا القديمة، لكي يسكب فينا خمرًا جديدًا. وأحيانًا يُدخلنا في نار التجربة، لا ليحرقنا، بل ليصقلنا كالذهب، فنخرج أنقى وأقوى.
تأملوا يوسف البار: باعه إخوته كعبد، وسُجن ظلمًا، لكنه بعد سنوات أعلن: "أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا، أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا" (تك ٥٠: ٢٠). الضيقة التي ظنها الجميع لعنة، صارت طريق خلاص لشعب كامل من المجاعة.
وتأملوا بولس الرسول: رغم سجنه وضرباته الكثيرة، كتب أعظم الرسائل التي لا تزال تبارك الكنيسة حتى اليوم. لو لم يُسجن بولس، ربما ما كانت الرسائل لتُكتب بهذا العمق.
الضيقة هي مدرسة يتعلم فيها القلب دروسًا لا يمكن أن يتعلمها في الراحة. فيها نختبر عمق الصلاة، ونكتشف أن الرجاء ليس مجرد كلمات بل حياة. فيها نعرف قيمة الاتكال على الله لا على ذراع بشر. لذلك قال أحد الآباء: "الضيقة باب الفرج، والدموع هي طريق الرجاء".
إذا وجدت نفسك اليوم في ضيقة، لا تنظر إليها كعدوّ، بل كمعلم يحمل إليك رسالة. اسأل نفسك: ماذا يريد الله أن يعلمني من خلالها؟ أين البركة المختبئة في قلبها؟ قد تكون الضيقة فرصة لتصالح مع الله، أو لقطع عادة قديمة، أو لتقوية إيمانك في وعود الرب. لا تدع الضيقة تدفعك إلى اليأس، بل اجعلها سببًا للاقتراب أكثر من قلب الله.
فلنصدّق دومًا أن وراء كل ضيقة قصد إلهي، وأن في عمق كل ألم بركة خفية. ربما لا نفهمها الآن، لكن سيأتي وقت نلتفت فيه إلى الوراء ونقول: "لو لم تحدث تلك الضيقة، ما كنت لأختبر يد الله بهذه القوة". لذلك، لنتشجع، ولنسلّم حياتنا بين يدي الآب المحب، عالمين أن الضيقة ليست نهاية، بل بداية طريق جديد مملوء بالبركة.