الثقة
الأزمة الحقيقية فى مصر هى عدم الثقة وانتشار ثقافة الريبة والتربص، تخلص هذه الفكرة إلى أن الثقة هى المعجزة فى الاقتصاد.
ويرى اقتصاديون أن فكرة الثقة فى المجتمعات هى أساس التقدم، فالمجتمعات القائمة على ثقافة الثقة استطاعت أن تقطع أشواطًا بعيدة فى التقدم. فى حين أن تلك التى تقوم على ثقافة الريبة والشك والتربص والتخوين فإنها غير قادرة على الخلاص من الماضى.
لعلى أبرز ما يثار فى مصر الآن ما بعد الثورة، ثقافة التخوين والريبة والشك هى أهم عائق أمام تقدم مصر سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية، فكلما أشعلت الفتن خسرت البورصة وركد النشاط السياحى، بل وأصبح الركود فى جميع المناحى ولا يرتع فى هذا الجو إلا الإعلام الفاسد،
فعنصر الثقة هو ما يمثل (رأس المال الاجتماعى ) الذى يمكن للمجتمعات به الخروج من مستنقع الركود والرتابة إلى حياة الحركة والتقدم.
والتفاوت فى حظ المجتمعات من التقدم بما تتوافر لها من مقومات مجتمع الثقة، ويفسر هذا القول أن السوق ليست رأس مال أو تطوير الأدوات المالية وغير ذلك من المؤسسات الاقتصادية فقط، بل خلفها ثقافة اجتماعية قائمة على الثقة، إذ لولا هذه الثقافة لا تقوم قائمة لهذه الأسواق، وبالتالى لا يمكن تقدم هذه الدول، فهذه الثقافة قائمة على تحمل المخاطر وتوافر الائتمان وعقود الثقة والاستناد إلى قانون العقد، وسلطان الإدارة واحترام الحقوق والتعهدات، والاعتراف بحرية الأفراد وما يقابلها من قيم المسئولية والتسامح وقبول الجديد.
وليس غريبًا أن نرى بعض المفكرين يربطون التقدم الاقتصادى بمعدل توافر ثقافة الثقة بين أفراد الشعوب من جهة وبين الحكومة من جهة أخرى وبين الدولة والمجتمع الدولى.
نجد أن التقدم فى هولندا سبق إنجلترا فى القرن السادس عشر، وهى أرض، مجرد أرض مسطحة تكاد تفتقر إلى أى موارد طبيعية، وذلك يرجع إلى أن هولندا سبقت غيرها فى وجود الثقة والتسامح الدينى.
لعل أهم ما يميز الدولة الإسلامية فى أزهى عصورها هى قيامها على الثقة بين الحاكم والرعية، وثقة المجتمع والدولة فى احترام المسلم لكلمته ودينه، فانتشر الإسلام عن طريق التجارة، وذلك على أساس الثقة واحترام المسلم، وبعد أن تخلى المسلم عن مناهج الإسلام ضعفت الدول الإسلامية، بل وأصبح بينها وبين الدول المتقدمة هوة سحيقة.
وثقافة الثقة بالنفس والثقة فى الآخرين والثقة فى المستقبل هى عناصر التقدم، على عكس ثقافة الريبة والشك والتخوين.
بالثقة أعيد تعمير أوربا واليابان واستعادت الدول التى دمرتها الحروب قوتها الاقتصادية.
وإذا كان العصر الحديث هو عصر المعلومات، فليس المقصود بذلك هو كثرة البيانات والأرقام المنشورة، ولكن الأكثر أهمية هو الثقة فى هذه البيانات وفى من يعدها، وإلا كانت هذه المعلومات أكذوبة كبرى المجتمع يتجاهلها.
والثقه هى أهم عناصر التقدم الاقتصادى، إذ لولا الثقة ما تم التبادل التجارى حتى إن كلمة ائتمان فى الاقتصاد مأخوذة من معنى الثقة.
وأخيرًا فإن مجتمع الثقة هو مجتمع التسامح والقبول بالرأى والرأى الآخر، بالرأى الصائب والخطأ، ولا يمكن أن يتحقق مثل ذلك ما لم يتوفر قدر من الثقة.
وأرى أن الحل الأمثل للخروج من هذه الأزمة بعد هذه الثورة هو أيضًا الثقة، فلابد أن تثق الحكومة فى الشعب، ولا بد للمعارضة ألا تلوح بتخوين الحكومة، بل لابد أن تثق الحكومة فى المعارضة.
بالثقة وحدها يمكن أن نبنى أسس التقدم، وعلى العكس بالريبة والتخوين يصعب الإقدام بخطوة واحدة للأمام.
