رئيس التحرير
عصام كامل

آفَةُ التَّعَصُّبِ الفِكْرِيْ


خلق الله تعالى الناسَ مختلفين في الطبائع، والألوان، والبيئات، والهيئات، والأفكار؛ لحكمة يعلمها سبحانه، فقد قال تعالى كما في سورة هود: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ".


ومن العجيب حقًا ما نراه من مناصبة العداء لمجرد المخالفة في الرأي، خاصةً في الأمور الاجتهادية التي ترك الشرع الباب فيها مفتوحًا لاجتهاد العلماء ولم يصدر فيه حكمًا قاطعًا؛ فإن هذا السلوك السلبي يحكي مأساةَ كثيرٍ من الناس صار عندهم عمًى وصممًا، فلا يرون إلَّا رأيهم ولا يسمعون إلا لمن على شاكلتهم بعيدًا عن فكرة هل ما يقولونه صوابًا أو خطأً؟!

والأدهى من كل هذا أن يُحْكَم على الناس بمظهرهم دون النظر في جوهرهم، والمشكلة أن أكثر من يرمي الناسَ بالتعصب والتَّشَدُّد هو في المقابل –إلا من رحم الله- أشدُّ تعصبًا، وأكثر تشددًا، لرأيه، أو طريقته ممن رماه، حتى عمَّت بذلك البلوى؛ ولذلك فإن هذه الظاهرة تُعَدُّ من أبرز المشكلات التي نعاني منها الآن؛ لأنها تؤدي إلى جُمودٍ في العقل، وانهيارٍ للفِكْر، ولا تسمح بالتعدُّدِيَّة الفِكْرية التي تميَّز بها الإسلام..

كما أنها تؤدي إلى إثارة الفتن، وتقسيم المجتمع، وعدم قبول الآخر، وتثير في النفس الأحقاد، والضغائن، وسوء الظن، وفوق كل هذا فهو عادة جاهلية، فقد كان من عادة الجاهلية أن ينصروا أتباعهم سواء كانوا على الحق أو على الباطل فنهاهم الإسلام عن ذلك؛ لأنه تعصب مقيت.

والحقيقة أن الإسلام عمل على علاج هذه القضية وذلك حينما أمر أتباعه أن يلتزموا الموضوعية والحياد أمام أي قضية أو أي شخص حتى وإن كان مخالفا في الرأي، أو حتى في الدِّين فقال تعالى كما في سورة المائدة: "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى"..

وأمرنا القرآن أن نقول الحق حتى وإن خالف هوانا، وأن ننصف صاحب الحق من أقرب الأقربين إلينا، وألا يؤثر فينا أبدًا مظهره أو غناه أو فقره فنحن في الحقيقة لا نتعصب لأحد إلا للحق؛ قال تعالى كما في سورة النساء: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا"..

ولقد أنصف القرآن حتى في حكايته عمن لم يؤمنوا به فقال: "لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ". ولقد حارب الأئمة والفقهاء التعصبَ وضربوا أروع المثل في تعليم الناس كيف يكون عندهم إنصاف وتجرد وموضوعية؛ فهذا الشافعي رحمه الله يقول: "ما ناظرت أحدًا إلا قلت اللهم أجري الحق على قلبه ولسانه فإن كان الحق معي اتبعني، وإن كان الحق معه اتبعته"..

وقد خلَّد التاريخ كلمته المشهورة: "قَوْلِي صوابٌ يحتمل الخطأ، وَقَوْلُ غيري خطأ يحتمل الصواب"، وهذا الإمام مالك رحمه الله لم يوافق الخليفةَ العباسيَّ الذي أراد أن يجبر الناس على اتباع ما في كتابه "الموطأ" ونهاه عن ذلك، ولقد كان من كلام الأئمة رحمهم الله: "ليس للفقيه أن يحمل الناس على رأيه"، وقد قالوا أيضًا: "لا إنكار في المختلف فيه" وذلك للتتسع مدارك الناس ويتقبلون مخالفيهم في آرائهم.

ولو أن الناس تجردوا للحق وحده ونزعوا الهوى من صدورهم وحكموا على الأشخاص والمواقف بموضوعية وحياد، وقبلوا الحق ولو من مخالفيهم وردًّوا الخطأ ولو على محبيهم لارتاح كل متعصب، وأراحوا الدنيا بأثرها من تعصبهم، فالحكمة ضالة المؤمن، حيثما وجدها فهو أحق بها.
الجريدة الرسمية