رئيس التحرير
عصام كامل

عشرة على الغالي يا أم محمد


من بين كل أحداث الدنيا وكوارثها الكبرى، يأتى موت الأم أكبر المصائب، وأعظم الآلام. الحسرة رصاصة عنيدة مستقرة راسخة في سويداء القلب. تتململ بين وقت وآخر مع ذكرى كلمة أو صورة أو لفتة أو عطر أو دعوة ارتبطت لديك بأمك!


الكتابة عن الأم التي على قيد الحياة فرحة وتبجيل وتقديس وتكريم وواجب. الكتابة عن الأم الميتة هي نعى بدم الحزن والشجن والدمع. آخر كلمة سمعتها من أمى رحمها الله رحمة عرضها السماوات والأرض، وهى تودع الحياة وترمقنى في نظرة السفر بلا عودة: مش عايزة أموت علشان بحبك يا محمد!

يا ربى!

كم أرتج لوقع هذه الكلمات حتى الآن. مرت خمس عشرة سنة على وفاتها، وما زلت أذكر لحظة خروج الروح لأنها بالضبط بالضبط كانت لحظة خروج روحى أنا أيضا. فاضت روحها إلى خالقها، وبقيت روحي أنا معلقة في المسافة ما بين السماء والأرض. حين تسحب روحك بعد وفاة الأم هو ما نطلق عليه أن جزءا منا مات.

الحقيقة أنه ليس جزءا من الجسد. لا هو ذراع ولا ساق ولا عين ولا.. ولا.. بل إن جزءا من الروح هو الذي مات، وسبقك إلى الآخرة في موكب ذهاب روح الأم.

نعيش نصف أحياء، لأن الكل مات. والكل هو الأم. ومهما كبرنا سنا ومقاما، ما زلنا أطفالا وصبية.. تنحدر دموعنا شوقا وحنينا. في ساعات الكدر والضيق، نشتاق إلى الصدر الأوحد في الدنيا الذي اتسع لنا. اتسع لغضباتنا، ولنكراننا ولفراقنا ولقسوتنا ولانحيازنا لزوجاتنا، وهو بعد صدر مليء بالرحمة وبالغفران. إنه صدر أمى وأمك.

تعودت أن أكتب الخطابات لأمى منذ غادرت المنصورة طالبا إلى جامعة القاهرة في السبعينيات، وعلى محطة قطار السادسة صباحا، ومع أمى وأبي، رحمه الله أوسع الرحمات، أوصتنى أمى بإلحاح أن أكتب إليها خطابا كل أسبوع، أو كلما جاء رسول من المنصورة لزيارتى في خارطة أبو السعود بمصر القديمة.

كنت أبدأ الخطاب بكلمة مازلت أعشقها وانحرمت الآن من كتابتها، كنت أكتب: أمي الحبيبة الغالية..

وتنساب حروفى، وعلى الطرف الآخر كانت دموع أمى تنساب إزاء مشاعري التي سكبتها عرفانا لها بتضحياتها الهائلة في سبيل تعليمي بالقاهرة، وكان ذلك أمرا مستحيلا تقريبا لضيق الحال وما يقتضيه الانتقال إلى العاصمة من مصاريف!

تحدت أمى الظروف، ولم أخذلها، وكانت خطاباتي إليها بمثابة الوقود الذي يجعلها تواصل رحلة الفرح والكفاح. ونجحنا.. هي التي نجحت وفرحت.. وعوضتها قدر استطاعتى وأسعدتها بكل ما أملك، ولما مرضت المرض الأخير عشت متكتما سر مرضها حتى لا أروعها.

كان السرطان تمكن من كبدها. فأخفيت التشخيص عنها وعن إخوتي جميعا وحملت عبء الوجع وحدى. كنت أتطلع إلى وجهها وأتفرسه كأنما أحفظه حفظا، وأستبقيه في ذاكرتى خوف اليوم الذي يغيب عنى. ويوم الرحيل، وقفت بباب غرفة النوم محسورا وهي تحتضر. رفعت رأسها نحوى بغتة وقالت متوسلة:

-اخرج يكفيك شر المرض!

كانت عيناي مثبتتين عليها تحفظها. دمعت عيناي وسألت بصوت مرتجف:

- هو خلاص؟! هو ده الفراق؟!

هزت رأسها. هزت رأسها فانخلعت روحى، وهبط قلبى في قدمى. خرجت باكيا أنشج. ودفعت برأسي في الحائط كأنما أدفنه! وخرج السر الإلهى. دعتنى خالتى لرؤيتها الأخيرة (تعال شوفها كانت روحها فيك يا محمد). كانت أمى مسجاة ووجهها الطيب وردى اللون.. بدموعى لصقت شفتى على جبهتها، وتمليت وجهها، وفجأة، ولن أنسى ذلك أبدا، اختلج جفن من عينيها اختلاجة أخيرة نهائية كأنها الخطاب الأخير النهائي منها إلى. صعدت إلى السماء عند رب رحيم.

لم أحب أحدا في الدنيا كما أحببت وما زلت أحب أمى.. وصار كل حزن بعدها أقل ألما!

- عشرة ع الغالي يا محمد..

تلك كانت كلمتها ونحن نتفارق.. نعم عشرة على الغالى يا أم محمد.. بحق ربك اذكرينى في حضرته وأدعو أن يغفر لى وأن يجمعني بك. وحشتينى.
الجريدة الرسمية