رئيس التحرير
عصام كامل

في ذكرى وضع حجر أساس السد العالي.. هل ينتهي عصر سدود توليد الكهرباء؟.. تحذيرات دولية من جفاف نهر النيل بسبب المنشآت العملاقة.. المفاعلات النووية البديل.. والصراع العسكري أبرز التحذيرات

فيتو

هي ملحمة بكل جوانبها، بتفاصيلها الصغيرة والكبيرة، بصراعها الذي شارك فيه الجميع، لم يكن ما قاله عبد الرحمن الأبنودي في سيمفونيته الإبداعية «حراجي القط» كافيًا لأن يلخص ما حدث، وقت أن كانت هناك دولة وهناك أحلام وهناك شعب، الأبنودي ذاته أكد أن أكثر كلمة تلخص ملحمة السد العالي أغنية مغمورة أولها جملة «اتمد يا عمري اتمد.. وأعيش وأشوف بعنيا السد»، تلك هي الحالة التي لخصت مصر وقتها.


نعم رددتُها مع أغانٍ كثيرة.. كان هذا هو حالنا، هكذا يبدأ محمود حسين الراوي، 84 عاما، وأحد بناة السد العالي وأقدمهم عملًا في المشروع العملاق منذ أن كان مجرد فكرة، ورصدت الأنواط والأوسمة التي حصل عليها، بدءا من عمله في السد العالي في سن 21 عامًا، وحتى خروجه على المعاش في الـ65 من عمره.

يبدأ الحكاية بقوله: إن الجميع يعتقد أن مراحل مشروع السد العالي بدأت في عام 1960 بالرغم من أن البدء الفعلي عام 1952، أي قبلها بثماني سنوات كانت جميعها مراحل أبحاث، وفي مثل هذا اليوم 9 يناير وُضع حجر الأساس للسد.

وأوضح أن بداية العمل بالمشروع كانت في أكتوبر 1952 مع وضع الألمان لأول خطوط جيرية أثناء إجراء الأبحاث الخاصة بالمشروع، ثم بدأ الفرنسيون في إجراء أبحاث أخرى، لافتًا إلى أن عام 1956 شهد تآمر الغرب على المشروع، حيث رفض البنك الدولي إعطاء قروض لمصر لتمويل المشروع، ويتسق ذلك مع التاريخ؛ إذ إن طلب التمويل لبناء السد جاء بعد إجراء الأبحاث التي تؤكد صحة بنائه.

«الراوي» يتذكر قرار تأميم قناة السويس حتى يستطيع البدء في إنشاء السد، مشيرًا إلى أنه شاهد الرئيس وبصحبته الرئيس تيتو، ونهرو، والملك محمد الخامس، أثناء تفقدهم لأعمال المشروع، موضحا أن عدد العاملين بالمشروع وقتها كان قليلا.

وتابع: «كنت أعمل على أحد الحفارات التي تجس الأرض وتستخرج العينات التي تصنع منها الأساسات، وكان معنا دائمًا في أرض المشروع المهندس إبراهيم زكي قناوي، نائب رئيس الهيئة، وأحمد السعيد نائبه، ومهندسو معمل البحوث، وهم أول من بدءوا في إنشاء السد العالي، ومعهم المهندس وليم كامل شنودة، والمهندس أحمد حسنين».


ما قاله «الراوي» تجسيد لأكبر مشروع في القرن العشرين، والسد العالي هو سد مائي على نهر النيل، وافتتح رسميًا عام 1971، بتكلفة مليار دولار، وسعتة التخزينية 32 مليار متر مكعب من المياه، وينتج حوالي 20% من كهرباء مصر، وذلك بحسب البيانات الرسمية لوزارة الري.

هناك مصر قبل السد العالي ومصر بعده.. تلك حقيقة، فالتأثيرات ظهرت على الفور بداية من إنارة القرى وحماية البيوت من الفيضان سنويًا، والأهم من ذلك وجود ما يكفي لمصر من الموارد المائية، وبالتخزين المتراكم بات لدى مصر احتياطي استراتيجي خلف السد العالي يصل لـ140 مليار متر مكعب من المياه، لكن الأزمة الحقيقية أن 90 مليار متر مكعب من تلك المياه لا يمكن استخدامها في الوقت الحالي.



يوضح الدكتور نادر نور الدين، خبير المياه الدولي، الأمر أكثر بقوله إن كافة السدود المائية على نهر النيل لها وظيفتان، الأولى تخزين المياه، والثانية استخدام جزء من تلك المياه لتشغيل توربينات لتوليد الكهرباء، العملية الأخيرة تحتاج نسبة معينة من المياه حسب قوة التوربينات وعددها والطاقة المولدة منها، وفي حالة السد العالي، فإنها تحتاج إلى 90 مليار متر مكعب لبدء توليد الكهرباء.

اقرأ.. سر انخفاض منسوب نهر النيل في فصل الشتاء.. وزارة الري تلجأ لتقليل المياه المنصرفة من السد العالي استعدادًا للأمطار

نهاية عصر السدود

ربما كانت تلك الحالة تصلح في السنوات الماضية، لكن عدة أسباب دفعت الدول إلى التغيير من استراتيجيتها المعتمدة على السدود، أول تلك الأسباب الزيادة السكانية، فبحسب البنك الدولي، فإن نصيب الفرد سنويًا من المفترض أن يكون 1000 كيلو متر مكعب، بينما الحقيقة أن الكثير من الدول لا يحصل مواطنوها على تلك النسبة، ومنها مصر التي يصل نصيب الفرد فيها إلى 600 متر مكعب بحسب البيانات الرسمية، تلك المشكلة مع الزيادة السكانية في القارة الأفريقية عمومًا، والتي وصلت لـ25% خلال العشر سنوات الماضية، يعني أن هناك حربا مائية مقبلة.


السبب الثاني الذي يعجل بنهاية عصر السدود هو الماراثون الذي بدأت فيه عدة دول أفريقية، بداية من عام 2002 لإنشاء السدود على مصدر مائي واحد وهو نهر النيل، وقد بني حتى هذا الوقت 12 سدا باستثناء «النهضة- ستيلجر»، وهما سدان تحت الإنشاء، هذا الماراثون دفع البنك الدولي والمفوضية الدولية للسدود في عام 2003 لإعداد دراسة تحت عنوان «السدود وممرات التنمية» تؤكد أن سرعة وتيرة بناء السدود المخزنة للكهرباء ينتج عنها أكثر من مشكلة، لعل أولها هو إعادة التوطين القسرية للساكنين في المناطق التي بُنيت السدود فيها مما يخلق مواطنين فقراء يفقدون أصولهم الإنتاجية بجانب تشتت المجموعات التي ترتبط بأواصر القرى وضياع الهوية الثقافية.

اقرأ ايضًا.. غرفة السياحة: رفع أسعار تذاكر زيارة السد العالي بنسبة 100%

ثالث الأسباب، كما أوضح تقرير المفوضية الدولية للسدود، يتمثل في تكاليف بناء السدود سواء المالية أو تأثيراتها على المواطنين مقارنة بإنتاجها، فهي مشروعات غير مجدية، مضيفًا أن السدود الكبيرة التي بُنيت حتى الآن – عام 2000- وصل إلى 45 ألف سد في العالم لم تفِ بوعودها، وكانت تكلفتها البيئية والاجتماعية والاقتصادية أعلى بكثير، وأن العبء الأكبر وقع على الفقراء.

نهر النيل
 
بجانب التأثيرات البيئية والاجتماعية التي أوردها تقرير الأمم المتحدة تبقى مشكلة دول حوض النيل ذات طابع مختلف؛ إذ إن تلك المشروعات وفق الدكتور محمد نصر علام، وزير الري الأسبق، سيكون لها تأثيرها القوي على منسوب مياه نهر النيل على المدى الطويل، وذلك لأن بعض الدول تلجأ إلى إقامة سلسلة سدود خلف بعضهم تكون المسافة بينهما كيلو متر، وهذا يقلل من منسوب المياه، مما يعني تراجع حصة دول المصب، مثل: مصر، والسودان.

«علام» يضيف أن العلاقات بين دول حوض النيل ليست علاقة طيبة، ومن ثم يمكن أن تكون تلك السدود سبب صراع قد يصل إلى خيار عسكري، إذا لم تراعِ دول المنبع احتياجات الدول المشروعة لدول مصب حوض النيل.

القانون

ومنح قانون الأنهار الدولية الوارد في اتفاقية الأمم المتحدة بشأن تنظيم استخدام المجاري الدولية لغير أغراض الملاحة 1997، جميع دول حوض النيل حق الانتفاع من النهر، شريطة أن يكون هذا الاستخدام غيرَ مضرٍ لأي بلد، وفي حالة رغبة دولة في إنشاء مشروع يمكن من خلالها إضرار بلد آخر تقدّم الدراسات الفنية للدولة المتوقع تضررها لتفصل في الأمر.

الحلول

الحلول أمام الدولة قليلة وتكلفتها عالية، لكنها ضرورية ولا مناص منها، ومن لم يدفع اليوم سيدفع غدًا بسعر أكبر، لذلك يوضح ضياء الدين القوصي، خبير المياه الدولي، أن المشكلة الحقيقية في المياه المخزنة لتوليد الكهرباء، ولذلك فإن الدول اتجهت لإنتاج الكهرباء من البدائل، مثل: الطاقة الشمسية، والمفاعلات النووية السلمية.


وأضاف «القوصي»، في تصريحات خاصة لـ «فيتو»، أن مصر أيضًا اتخذت نفس المسار من خلال مفاعل الضبعة المفترض أن يعوض ما ينتجه السد العالي من كهرباء، ومن ثَمَّ تستفيد مصر من 90 مليار متر مكعب تهدَر سنويًا بسبب توليد الكهرباء، وتلك أبرز الحلول الاستراتيجية لمواجهة الندرة المائية خلال الفترة المقبلة.

شاهد.. وزير الكهرباء: 4 شروط لتأمين مصادر الطاقة في مصر.. 2.5 مليار دولار تكلفة 30 مشروعًا لتوليد 1.5 جيجاوات

كما أوضح أن هناك دولا ستسير على النهج نفسه، مثل: السودان، الذي بالفعل توقف لديه سدان كبيران، بجانب دول متوقع أن تخطو الخطوة نفسها، مثل أوغندا.
الجريدة الرسمية