رئيس التحرير
عصام كامل

«عبس وتولى».. هل نزلت في النبي؟!


خاطب الله، تبارك وتعالى، نبيه، صلى الله عليه وآله وسلم، بأجمل الكلمات، وأطيب الألفاظ، ووصفه بأعظم الصفات، ووسمه بأرقى الأوسمة. "يا أيها النبي.....".. "يا أيها الرسول......".. "لعمرك......".. "وإنك لعلى خلق عظيم". وقرن اسمه باسمه سبحانه وتعالى، وجعل طاعته، صلى الله عليه وآله، وسلم، من طاعته، سبحانه، واستغفاره للمسلمين شرطًا لقبوله، والإيمان بالله معقودًا بالإيمان برسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.


من هنا تحيرتُ كثيرًا وتوقفت طويلًا أمام أقوال المفسرين في تفسير آيات "عبس وتولى...........". والتي تزعم بأنها نزلت عتابًا من الله لرسوله بسبب تجاهله عبد الله بن أم مكتوم، حيث كان منشغلًا بدعوة من زعموا أنهم "عظماء قريش". والمؤمن برسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لا يصدق من يدعي أن من أدبه النبوي العالي أن يُعْرِضَ عن بشرٍ، كائنًا من كان.. فإذا كان لم يتجاهل الجماد، كما في حالة الجزع، ولا الحيوان، مثلما حدث مع الغزالة، والجمل، وغيرها، فكيف يلوي وجهه الشريف عن إنسان، وكيف يتجهم، بل و"يعبس.. ويتولى"؟! يا لها من إساءة لرسول الرحمة والحب والسلام.

ونص الأحاديث التي تروي الواقعة، المنسوبة زورًا وافتراءً على المبعوث رحمة للعالمين، كما يأتي: حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، قال: ثنا أبي، عن هشام بن عروة مما عرضه عليه عروة، عن عائشة قالت: أُنـزلت (عَبَسَ وَتَوَلَّى) في ابن أمّ مكتوم، قالت: أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: أرشدني، قالت: وعند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من عظماء المشركين، قالت: فجعل النبيّ، صلى الله عليه وسلم، يُعْرِض عنه، ويُقْبِل على الآخر ويقول: "أتَرَى بِما أقُولُهُ بأسًا؟ فيقول: لا، ففي هذا أُنـزلت: (عَبَسَ وَتَوَلَّى)".

وفى رواية أخرى، حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (عبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى) قال: "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجي عُتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب، وكان يتصدّى لهم كثيرا، ويَعرض عليهم أن يؤمنوا، فأقبل إليه رجل أعمى يقال له عبد الله بن أمّ مكتوم، يمشي وهو يناجيهم، فجعل عبد الله يستقرئ النبيّ، صلى الله عليه وسلم، آية من القرآن، وقال: يا رسول الله، علمني مما علَّمك الله، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبس في وجهه وتوّلى، وكره كلامه، وأقبل على الآخرين..

فلما قضى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأخذ ينقلب إلى أهله، أمسك الله بعضَ بصره، ثم خَفَق برأسه، ثم أنـزل الله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى)، فلما نـزل فيه أكرمه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكلَّمه، وقال له: "ما حاجَتُك، هَلْ تُرِيدُ مِنْ شَيءٍ؟" وإذا ذهب من عنده قال له: "هَلْ لكَ حاجَةٌ فِي شَيْء؟" وذلك لما أنـزل الله: "أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى".

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن هشام، عن أبيه، قال: نـزلت في ابن أمّ مكتوم (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى).

هل يقبل قلب عاقل، وعقل سليم مثل هذا الأمر؟! أسباب نزول الآيات مثلها مثل روايات السيرة النبوية، قد تدخلها الإسرائيليات، وقد تشوبها الموضوعات، ولربما تخالطها الأكاذيب، ولم لا، والمتون لا يطمئن إليها المؤمن. فالرسول، صلى الله عليه، وآله، وسلم، لم يكن يجلس مجلسًا مخصصًا لعرض الإسلام على من أسمتهم الروايات هنا "عظماء المشركين"، وحتى كلمة "عظماء" لم تكن شائعة التداول في صدر الإسلام. ولم تروِ لنا كتب السيرة، ولا الأحاديث الشريفة شيئًا، على الإطلاق، من هذا القبيل!

أما المعلومة التي تدحض رواية "عبس وتولى"، وأن الله، عز وجل، عاتب، من خلالها، رسوله، ومصطفاه، صلى الله عليه وآله وسلم، في ابن أم مكتوم؛ فذلك أن السورة مكية، والنبي لم يتزوج السيدة عائشة، راوية الحديث الأول إلا بعد الهجرة بسنوات، أي في المدينة المنورة، ومن يصفهم الحديث بـ "عظماء المشركين" كانوا في مكة، أي أنه لكي تكون تلك الرواية صحيحة، يجب أن تكون قد حدثت قبل الهجرة للمدينة، حتى تتمكن السيدة عائشة من معاصرة الحدث، وتروي الحديث! ومن ثم يتضح جليًّا كذب الرواية وافتراؤها على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بل واجتراء واضعها على النبي.

الطرح نفسه ينطبق على حالة عبدالله بن عباس، راوي الحديث الثاني، فقد أسلم أبوه العباس بن عبدالمطلب بعد فتح مكة، وانتقل النبي إلى بارئه، وهو لا يزال طفلًا يناهز الثالثة عشرة، ولا يصح أن يكون قد شاهد الواقعة في مكة قبل إسلامه، فمن يصدق أن طفلًا يفهم ويحفظ ويحكي مشهدًا وواقعة طويلة بشخوصها وكلماتها؟!

ومن قبيل جماليات خطاب الله لنبيه، صلى الله عليه وآله وسلم، لم نرَ في القرآن الكريم بأكمله خطابًا من الله له بضمير الغائب؛ إذْ لم يتضمن الكتاب الحكيم آية واحدة استعيض بها عن ذكر سيدنا محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، اسمًا أو صفة، بضمير الغائب، فالنبي الخاتم لم يغبْ أبدًا على مدار آي الذكر الحكيم بأسره.

والأقرب إلى المنطق أن تكون السورة نزلت في صحابي من كبار الصحابة، لكن لا يستقيمُ أبدًا أن تكون قد نزلت في النبي، صلى الله عليه وآله وسلم.. ولا يمكن أن نطمئن إلى الأحاديث التي رُوَيت بشأنها.

كتب التفاسير أيضًا، ككتب التراث، تستدعي، حتمًا، وفورًا، مراجعة وتنقيحًا، وإعادة نظر، وهذا واجب علماء الأمة، جميعًا، والباحثين، ممن يؤمنون بالله ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم. وإذا كان المفسرون قد فشلوا في معرفة سبب نزول تلك الآيات، فليس لهم أن يلصقوها بالرسول، صلوات الله وتسليماته عليه، لمجرد "سد الخانة"!

الجريدة الرسمية