رئيس التحرير
عصام كامل

بين التظاهرات والاجتماعات السرية.. لماذا تجرأ الأقباط على الكنيسة؟

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

«ابن الطاعة تحل عليه البركة».. دائما ما تراهن الكنيسة على طاعة أبنائها، وما يحملونه في قلوبهم من تقدير لرجال الدين، والتنشئة الكنسية التي تضع الكهنة في مرتبة أعلى قليلا، بفضل ما يحملونه بين أيديهم من «كلام الله».


السنوات الأخيرة وما تخللها من أحداث غيرت من طبيعة العلاقة بين الأقباط والكنيسة، وكسرت تابوهات كثيرة، وتسرب إلى الداخل ما يمكن تسميته بـ«التمرد»، أو «الجرأة» في التعامل مع رجال الدين أو الأحداث الكنسية.

لا ينكر أحد أن الحراك السياسي، الذي أحدثته ثورة 25 يناير، انعكس بالتبعية على الأقباط، حيث شاركوا بفاعلية في أحداث يناير ويونيو، فبعد سنوات من ما يشبه العزلة داخل جدران الكنيسة، وفرت لهم خلالها «المؤسسة الكنسية»، كل ما يحتاجونه في الخارج.

الأقباط بعد الثورتين لم يعودوا إلى قواعدهم التي التزموها لسنوات طويلة، لكن صوتهم الذي ارتفع لإسقاط نظامين، لم ينخفض أيضا في القضايا التي تخص الكنيسة، تجرأ الأقباط في طرح قضاياهم على «المشاع»، بعد أن كان الخوف من الأخر ذي الأغلبية، يحكم حديثهم.

حادث أبو مقار
حادث مقتل الأنبا إبيفانيوس، أسقف ورئيس دير الأنبا مقار، وطريقة تناول الأقباط، وطرحهم العديد من الفرضيات، دون حذر أو خوف، والحديث عن الخلل الموجود في الكنيسة، يؤكدان أن عقلية الأقباط تغيرت، ولم يعد هناك ما تخفيه أو يخشى انكشافه.

اعتراف قداسة البابا تواضروس الثاني، في العظة الأسبوعية، بوجود انحرافات، وخلل في الحياة الرهبانية، وأن الكنيسة ليس لديها ما تخفيه، منح الأقباط جرعة ثقة، للحديث باستفاضة ليس فقط عن «واقعة أبو مقار»، إنما عن أحوال الكنيسة وكهنتها بشكل عام، وشهد موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك»، سيجالات طويلة في هذا الإطار.

واقعة «دير الجرنوس«
حادثة «أبو مقار»، وما تبعها من جدل، وانتقادات طالت رأس الكنيسة، ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، في سلسلة المواجهات بين الشعب والكهنة، حيث أصدرت إيبارشية مغاغة والعدوة، اليوم، بيانا عن مشكلة قرية دير الجرنوس، بمركز مغاغة، يحمل إمضاء القمص برنابا إسحق إسكندر، وكيل مطرانية مغاغة والعدوة.

البيان رغم أنه جاء دفعا عن وجهة نظر واحدة وهي «مطرانية مغاغة، وأسقفها الأنبا أغاثون»، إلا أنه حمل الكثير من الدلالات الخطيرة، أبرزها أن «الزي الأسود» فقد بعضا من التقدير، بفضل أفعال أشخاص.

مطرانية مغاغة في بيانها وجهت اتهامات صريحة إلى الشباب الغاضب، ووصفتهم بأنهم بـ«خارجين عن البنوة والتفاهم، أو معرفة حدود المسئولية».

يفهم من بيان مطرانية مغاغة، أن التفاهم غاب بين الطرفين «شعب وكهنة»، «منذ أن قامت المطرانية بعمل مزار للشهداء بفناء كنيسة السيدة العذراء بقرية دير الجرنوس، قام الشباب المحرضون بمنع بناء المزار، وهدم ما يتم بناؤه، واستمر هذا الحال لمدة 21 يومًا».

شباب الكنيسة رفض أيضا الانصياع لقرار الأنبا أغاثون، بعدما اختار كاهنا للخدمة بالقرية، فقامت لجنة الكنيسة وبعض من الخدام بإعداد الخطاب وتم توقيعه ووجهوه للأب الكاهن أثناء صلاة قداس الذكرى السنوية للشهداء، طالبين ألا يخدم بكنيستهم.

وفي 26 مايو الماضي تجمهر الشباب وقبل انتهاء القداس الإلهي بدقائق معدودة بعض من الخدام أغلقوا باب الكنيسة، أثناء وجود الأسقف، وسمع بصوت عالٍ بعض الخدام مطالبين بإتمام مطالبهم، فقال الأنبا أغاثون سوف يتم تحديد موعد لسماع مطالبهم، وقام بعض الكهنة بتهدئتهم، إلا أن الخدام اعتدوا بالضرب على الأب القس أسطفانوس إسحق كاهن كنيسة العذراء، والقس فيلبس صبحي كاهن كنيسة الشهيد أسطفانوس وتمزيق ملابس الشماس مينا عزيز، والتعدي على المهندسين الكبار بالكنيسة وتهديد عمال المطرانية.

الشباب الغاضب رفض الجلوس مع الأسقف، حسب البيان؛ لذا قررت المطرانية، إيقاف بعض الخدام عن الخدمة، ورد الشباب بشكوى رفعوها إلى قداسة البابا، والذي بدروه حولها إلى الأنبا لوكاس، وتبادل الطرفين المكاتبات.

الصدام بين الشباب الغاضب والأسقف تحول من العلن إلى السر، حيث كشف البيان أن «بعض كبار القرية أخبروا المطرانية أن بعض الشباب يعقدون اجتماعات سرية وعلنية؛ لإفشال عيد العذراء، ويسيطرون على الكنيسة، وإلغاء القيادات الدينية، والأسقف، والوكلاء، وكهنة القرية».

تصاعد الصدام أمس بعد إغلاق الخدام للباب الرئيسي للكنيسة، ومنعوا دخول أي أحد لتأدية الشعائر الدينية.

الشرعية
واختتم البيان بأن المطرانية اتخذت قرارًا لكى لا تعطى شرعية لهؤلاء الخارجين ولأفعالهم، وتفاديًا لاحتكاكهم بالآباء الكهنة وتعديهم عليهم بالقول واليد، لذلك أوقفت الصلوات والقداسات إلى حين الجلوس مع كبار البلد لرد أبنائهم عن سلوكهم الخاطئ، ومعرفة حدودهم، أما من جهة الماليات الخاصة بكنيسة السيدة العذراء بقرية دير الجرنوس، وبقية كنائس الإيبارشية، فيوجد نظام مالى دقيق ومنظم وتحت مسئولية لجان متخصصة بالأمور المالية والإدارية بالمطرانية والكنائس، وحساب كل كنيسة مسجل بالمطرانية، ودخل كل كنيسة خاص بها، والمطرانية لا تأخذ من أي كنيسة ماديات بل تعطى المطرانية الكنائس الفقيرة والمحتاجة.

«تمرد في بيت الله»
واقعة كنيسة «دير الجرنوس»، تعكس مدى الخلل الذي أصاب العلاقة بين الشعب والكنيسة، حيث فقد الأقباط جزءا من الثقة في «الكهنة»، بفعل ما ينتشر من مخالفات وتجاوزات لرجال الدين، المسيحية منها براء.

البابا تواضروس نفسه قال في عظته: «ليس كل من يخدم سيدخل ملكوت السموات»، مستندا على الآية الشهيرة «يارب افتح لنا باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين.. حينئذ جاءهم صوت ابعدوا عني يا ملاعين لا أعرفكم».

مواجهة الشعب والكنيسة، وما تخللها من تحولات في التعامل، يمكن أن تستشعره منذ نوفمبر 2014، عندما أطلق نشطاء أقباط حركة «تمرد»، وسعت إلى جمع توقيعات من أقباط مصر لمطالبة الكنيسة بتقديم حلول لمشاكلهم الشخصية.

وأسفرت حركة الاحتجاجات داخل الكنيسة عن إيقاف عظة البابا تواضروس الثاني، لأول مرة في تاريخ الكاتدرائية منذ تولي تواضروس رئاسة الكنيسة المصرية.

ويرى الكثيرون أن تغير تعامل الأقباط مع الكنيسة، يعتبر ضغطا على قداسة البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية، الذي تسلم البطريركية في ظروف صعبة.

وظهرت جرأة الأقباط منذ أن قاطعة سيدة، البابا تواضروس في محاضرته في اجتماعه الأسبوعى وانتهرها باعتبار أن للكنيسة قدسيتها واحترامها، فتم تسويق هذه الواقعة على أنها خلل في تعامل البابا مع رعيته.

الاحتجاجات والتظاهرات والجماعات السرية، كلها أشكال لتعاملات، تعكس تغيرا في تفكير الأقباط، بعد سنوات من القدسية غير المحدودة لرجال الدين، لكنهم في النهاية أدركوا أن الجميع بشر يخطئ ويصيب، خاصة أن يهوذا اختاره المسيح نفسه.. لكنه هلك.

«أحاديث المخادع»
الكاتب والباحث كمال زاخر، أرجع التغيير الفكري في طريقة تعامل الأقباط مع القضايا والأحداث، إلى التغير في المناخ العام، والثورة الرقمية التي أحدثت سيولة في المعلومات، وما تبعها من آليات في التعامل مع الأحداث.

وأوضح «زاخر» في تصريح لـ«فيتو»، أن طريقة تعامل الأقباط مع الأحداث كانت موجودة وفق المعلومات المتاحة، لكن زيادة المعلومات صنعت زخما أكثر، بالإضافة إلى أن الجيل الجديد خارج السيطرة

وأكد أن الجيل الجديد لا يقبل فكرة السيطرة والتوجيه، كما أن أحاديث المخادع خرجت للسطح دون محاذير، مشيرا إلى أن تعامل الشعب والكنيسة، وما يشوبها من خلل، يرجع إلى عدم وجود انتقال حدي ما بين عصرين، بمعنى أن الكنيسة تمر بمرحلة انتقالية، وهو ما يعكس الصدام بين التقليديين والقادمون الجدد.

وأوضح أن الصدام في الكنيسة، هو صدام جيلي، حيث إن هناك جيل لا يريد أن يقتنع بالمتغيرات، في حين أنه يملك السلطة، ورغم ذلك لا يقتنع أن الأجيال تغيرت وليست كما هي في السابق.

وتوقع أن تنتهي الأزمة عندما تستوعب الأجيال ضرورة الحوار الجيلي، وعبر عن تفاؤله بالمستقبل، حيث إن قبول الحوار سينتهي في النهاية إلى توافق، وأوضح أن الكنيسة تضم ثلاثة أجنحة «التقليدي المتشدد، التجديدي، يقبعون في المنطقة الرمادية»، مشيرا إلى الفئة الثالثة مصابون بالدهشة، وهي قادرة على ترجيح كفة فئة على أخرى. أخرى.

الجريدة الرسمية