أحمد حسن الزيات يكتب: تقوى الله
نشرت مجلة الأزهر في رمضان عام 1382هـ، مقالا للكاتب المفكر أحمد حسن الزيات، قال فيه:
«قال الناس وقلنا في شهر رمضان ماهو أهله، ولو أنك تدبرت أركان الإسلام الخمسة في طبيعتها وشريعتها لتبين لك أن الصوم أشدها اتصالا بالله، وأقواها انفعالا بالضمير.
فإذا كانت الشهادتان إسلاما لأنهما ذكرا، والصلاة والزكاة والحج إيمانا لأنها تصديق، فإن الصوم وحده إسلام وإيمان وتقوى، ذلك لأن الرجل يشهد بواحدانية الله ونبوة محمد، لكنه لايقيم صلاة ولايؤتى زكاة ولا يؤدى حجه.
وقد يقيم هذه الأركان رياء وسمعة أو اضطرارا أو عادة، لكنه لايصوم رمضان إلا إذا أراد مخلصا أن يجلو صدره بالذكر، ويطهر نفسه بالعبادة، ويزود قلبه من مذخور الخير بما يقوم على احتمال الفتن والمحن في دنيا الآمال والآلام بقية العام.
فالتقوى إذن هي العنصر الجوهري لعقيدة الصوم، هي سره ورقيبه وغايته لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به).
والتقوى كلمة تجمع الحدود والقيود التي تضمها معنى الصوم، وجماعةا مجاهدة النفس ومخافة الله، ومن مجاهدة النفس فطامها عن اللذة واللهو وكفها عن الأذى واللغو، وفى ذلك تقوية للإرادة، لأن الإرادة تقوى برياضة النفس على الحرمان المؤلم، كما يقوى الجسم برياضة البدن بالجهد العنيف.
إن للجوع أثرا شديدا في تصفية النفوس وتلطيف الطباع، وقالوا إن "البطنة تذهب الفطنة"، ولذلك اتخذ أقطاب التصوف والدين "الجوع" سبيلا إلى تقوية العقل وإذكاء الروح، وقالوا: لن ينال الرجل درجة الصالحين حتى يغلق عن نفسه باب الرخاء ويفتح عليها باب الشدة.
وقال يحيي ابن معاذ "الجوع للمريدين رياضة، وللتائبين تجربة، وللزاهدين سياسة وللعارفين تكرمة".
واليوم يستقبل رمضان أكثر الناس لا لاعتباره ركنا من أركان الدين يقيمه من أقامه ويهدمه من هدمه، ولا باعتباره طهورا للنفس ونورا للقلب وجلاء للمشاعر، إنما يستقبلونه باعتباره تقليدا من التقاليد الموروثة وعيدا من الأعياد المقررة، فيفتنون في اللذة ويتدفقون في اللهو، ويقضون الليل على الموائد والنهار على الأسرة.
وبين الافراط في اللهو والأكل والنوم تضيع حكمة الإسلام من فريضة الصيام.
إن رمضان اليوم أصبح ثلاثين عيدا للفطر لا ثلاثين يوما للصوم، فهو لفظ ضاع معناه وفقد مسماه، فمنذ العهد الفاطمي تجد فيه المسابح في أيدى الرجال، والمصابيح في أنامل الأطفال، والمآذن تتألق بالنور، والمنازل تتقلب في الأنس، والحوانيت ساهرة الليل والبيوت نائمة النهار، ولكنك لاتجد ماكنت تجده بالأمس من التقوى التي تعمر القلوب والخشوع الذي يغمر المشاعر».
