رئيس التحرير
عصام كامل

عندما يغيب الرشد السياسي عند البعض !


منذ تم الإعلان عن إرسال اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والمملكة العربية السعودية التي تم إبرامها في أبريل 2016 إلى البرلمان لمناقشتها طبقًا للدستور واتخاذ قرار بشأنها سواء كان بالقبول أو الرفض، وحالة من غياب الرشد تغزو عقول بعض نواب البرلمان، فيبدو وكأنهم ليسوا نوابا عن الأمة تم تكليفهم من قبل الشعب بالتشريع والرقابة المسئولة بحكم الدستور، وإنما هم مثل عامة الناس الذين يخوضون في موضوعات مهمة ويطلقون الأحكام على القضايا الخطيرة بالعاطفة والنوايا الطيبة التي لا مكان لها في عالم القانون والسياسة والمصالح العليا للبلاد قبل البحث والدراسة والتمحيص الدقيق !


أي اتفاقية دولية تكون مصر طرفا فيها لها قواعد حددها الدستور في خطوات واضحة.. الخطوة الأولى هي الإبرام حيث يقوم الرئيس بإبرام الاتفاقية مع الطرف المقابل، والثانية هي العرض على البرلمان لمناقشتها والموافقة عليها أو رفضها، والثالثة في حال الموافقة هي التصديق من رئيس الدولة لتدخل الاتفاقية حيز التنفيذ، وفي هذه الحالة يكون لدينا اتفاقية قائمة يمكن الحديث عنها والجدل حولها، ويمكن ذلك أيضا وهي في طور النقاش داخل البرلمان، وأظن هذا ما يدعو إليه البرلمان من أهمية النقاش والاستماع إلى كل وجهات النظر للوصول إلى قرار صحيح.

قناعتي الشخصية تقول إن الجميع –باستثناء أصحاب الأجندات– وطنيون يخافون على حبة الرمل الواحدة من الضياع، وإن الرئيس وكل مؤسساتنا الوطنية من جيش وخارجية وأجهزة أمنية وبرلمان وقضاء لا يفرطون في سنتيمتر من أرض مصر ولو سالت دماؤهم أنهارا عليها، ومن ثم لا يمكن وصف أحد منهم بالخيانة أو العمالة أو التفريط.

لكن ما حدث ويحدث من تصريحات بعض النواب على الشاشات وفي مداخلات ساخنة يؤكد أن هناك غيابًا للعقل السياسي وإهدارًا للحظة تاريخية فارقة في عمر هذا البرلمان عندما يصل إلى قناعة وقدرة على اتخاذ قرار مسئول في قضية مهمة بعيدا عن الصخب والشو الإعلامي الذي –للأسف– يطغى على العقل الراشد والمسئول.

القضية أخطر من أن نعالجها بالهتاف والنعيق، وأخطر من مزايدة البعض على البعض، وأعظم من احتكار الوطنية للبعض على حساب البعض.. وفي كل الأحوال فإن المسئولية ستكون أمام الله والتاريخ، وليس أمام البشر !

ما يحزن ويدعو للألم والحسرة هو حال بعض النواب الذين يحملون سيوفا خشبية يبارزون بها هواء الفضائيات، وينزعون عن أنفسهم أردية المسئولية والوقار بمحض إرادتهم في مقابل الشو والصيت العالي وبطولة وقتية زائفة!

تعهد البعض منهم بتقديم استقالته من المجلس اعتراضًا على الاتفاقية حال إصرار الحكومة على تبعية الجزيرتين للسعودية ناسيا أو متناسيا أن الكرة في ملعبه وأنه كبرلمان منوط به الدراسة والبحث واتخاذ القرار فصرح بما لا يستطيع الوفاء به قبل أن يفهم أو يسمع أو يناقش وهو بالأمر غير متخصص أو خبير واستطرد قائلا: لن نتمسك بكراسي رخيصة لتمرير الاتفاقية، وكأنه جلس على كرسي البرلمان في صفقة سابقة يريد أن يتبرأ منها !

وذهب البعض إلى القول: (لن نغفر للحكومة سقطة التفريط في جزيرتي تيران وصنافير؛ فالجزيرتان مصريتان بحكم التاريخ، ومن الخطر الشديد تسليمهما للسعودية، وما يثار حول سعودية الجزيرتين أفكار هدّامة) ونسي أنه هو ومجلسه من يقرروا مصير الجزيرتين وليس الحكومة بعد الفحص والتدقيق!

وقال البعض: (95% من نواب المجلس يرفضون تمرير اتفاقية جزيرتي تيران وصنافير، ولن يوافق عليها سوى القليل) و(الاتفاقية باطلة بحكم القضاء، وإحالتها إلى المجلس أمر غير مقبول، فاتفاقية تيران وصنافير تختلف عن أي قضايا داخلية، والمجلس غير مختص بنظر الاتفاقية لحين الفصل فيها نهائيًّا من قبل القضاء؛ لأنه الجهة الوحيدة المختصة بنظرها)..!

الحقيقة منذ جاء البرلمان ونحن لم نشهد فيه موقفا اجتمعت عليه هذه النسبة الكبيرة، والأهم أن من يقول ذلك يتنازل عن حقه الدستوري في مناقشة الاتفاقيات التي تبرمها الدولة ويرجعها لمسئولية القضاء!

أما الغريب هو ما قاله أحد النواب إن الجزيرتين مصريتان قولا فاصلا، والتاريخ والجغرافيا بيقولوا كده، مش هنستنى خبراء أجانب علشان يفصلوا في تبعيتهما، دي أرضنا وإحنا عارفينها أكتر من أي شخص تاني) بما يعني أن بعض نوابنا ماشيين بالبركة وبمعزل عن مقتضيات العصر من قوانين وشهادة خبراء !

لا يفكر أحد أو يظن أنني أدعو لأن تكون الجزر سعودية أو حتى مصرية فهذا شأن ليس لدى فيه خبرة أو علم أكثر ممن هو مثلي.. لكني أصف حال بعض نواب البرلمان عندما يغيب العقل السياسي ونتفرغ للشو والابتزاز ومداعبة مشاعر الناس برخص شديد.. والله المستعان.
الجريدة الرسمية